النسيم

مجموع فتاوى ابن تيمية

المجلد العشـــرون
( 392 من 645 )

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله

عن [ صحة أصول مذهب أهل المدينة] ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة، وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار ؟

فأجاب رضي الله عنه : الحمد لله، مذهب أهل المدينة النبوية - دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة إذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الإسلام وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله وبها كان الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم - مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا، في الأصول والفروع . وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه : ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه وقد روي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة . وقد جزم بذلك ابن حبان البستي ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح . أما أحاديث الثلاثة ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ) . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( سأل رجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أي الناس خير ؟ قال : القرن الذي بعثت فيهم، ثم الثاني، ثم الثالث ) .

وأما الشك في الرابع، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا : ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن . وفي لفظ : خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم الحديث وقال فيه : ويحلفون ولا يستحلفون ) .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم - والله أعلم : أذكر الثالث أم لا ؟ - ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا ) . وقوله في هذه الأحاديث : " يشهدون قبل أن يستشهدوا " قد فهم منه طائفة من العلماء أن المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له وحملوا ذلك على ما إذا كان عالما، جمعا بين هذا وبين قوله : ( ألا أنبئكم بخير الشهداء : الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وحملوا الثاني على أن يأتي بها المشهود له فيعرفه بها . والصحيح أن الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء في بعض ألفاظ الحديث ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد، ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء بالنذر وهذه الخصال الثلاثة هي آية المنافق كما ثبت في الحديث المتفق عليه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي لفظ لمسلم : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) فذمهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يفشو فيهم من خصال النفاق وبين أنهم يسارعون إلى الكذب حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك، فإنه شر ممن لا يكذب حتى يسأل أن يكذب . وأما ما فيه ذكر القرن الرابع فمثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم . فيفتح لهم ولفظ البخاري : ثم يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس ) ولذلك : قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الثانية والثالثة وقال فيها كلها : صحب ولم يقل رأى .

ولمسلم من رواية أخرى : ( يأتي على الناس زمان يبعث فيهم البعث فيقولون : انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني فيقولون : هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يبعث البعث الثالث فيقولون : انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال : انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ) .

وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين : على أن صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من رآه مؤمنا به وإن قلت صحبته، كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره . وقال مالك : من صحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك . وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال : صحبه شهرا، وساعة . وقد بين في هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به، فإنه لا بد من هذا .

وفي الطريق الثاني لمسلم ذكر أربعة قرون ومن أثبت هذه الزيادة قال : هذه من ثقة . وترك ذكرها في بقية الأحاديث لا ينفي وجودها كما أنه لما شك في حديث أبي هريرة أذكر الثالث ؟ لم يقدح في سائر الأحاديث الصحيحة التي ثبت فيها القرن الثالث . ومن أنكرها قال في حديث ابن مسعود الصحيح : أخبر أنه بعد القرون الثلاثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته فيكون ما بعد الثلاثة ذكر بذم . وقد يقال : لا منافاة بين الخبرين، فإنه قد يظهر الكذب في القرن الرابع . ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية .

ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية، وفى القرون التي أثنى عليها رسول

الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، حتى إنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد، أكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله، بما كان عندهم من الأثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام ولا العراق ولا غير ذلك من أمصار المسلمين .

ومن حكى عن أبي حنيفة، أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم، فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك، وأما المدينة فقد تكلم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أن إجماع أهلها حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك والكلام، إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لاسيما من حين ظهر فيها الرفض، فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل ال]، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار، فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج منها العلم والإيمان خمسة : الحرمان، والعراقان، والشام، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة، وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية . ]ن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب .

[ الأولى ] : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء . أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك . وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه .

قال أبو يوسف رحمه الله، وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال : لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت .

فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة، كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه، ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه .

وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما؛ لعلمهما بأن شيخهما كان يقول : أن هذه الأحاديث أيضاً حجة إن صحت لكن لم تبلغه .

ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس؛ لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما .

وقد بينا هذا في رسالة [ رفع الملام عن الأئمة الأعلام ] ، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر؛ بل لهم نحو من عشرين عذراً، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث؛ أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم؛ أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ؛ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك . والأعذار يكون العالم في بعضها مصيباً، فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئاً بعد اجتهاده فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له ; : لقوله تعالى { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة 286 ] . وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال : ( قد فعلت ) ولأن العلماء ورثة الأنبياء .

وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية وأنه فهمها أحدهما؛ ولم يعب الآخر؛ بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكما وعلما فقال : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء 78 ] { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء 79 ] . وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء : مسألة نفش الدواب في الحرث بالليل وهو مضمون عند جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد . وأبو حنيفة لم يجعله مضموناً .

والثاني : ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما . والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل، إذا أمكن كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة، كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .

والمقصود هنا : أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل، حجة باتفاق المسلمين، كما قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون ؟ قال : لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق . فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .

وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال : هذه مباقيل أهل المدينة، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني : وهي تنبت فيها الخضراوات .

وسأله عن الأحباس فقال : هذا حبس فلان وهذا حبس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما : قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .

وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة، كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء .

وإنما قال مالك : أرطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية، وجاءت دولة ولد العباس قريباً؛ فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق، ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال : نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس؛ أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم .

ويقال : أنه قال لمالك : أنت أعلم أهل الحجاز؛ أو كما قال . فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة؛ ومحمد بن إسحاق؛ ويحيى بن سعيد الأنصاري؛ وربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون وغير هؤلاء .

وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء، ويتعلم منهم الحديث، وأكثر عمن قدم من الحجاز؛ ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة : أبو يوسف أعلمهم بالحديث؛ وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعاً، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب؛ وربما قيل أكثرهم تفريعاً، فلما صارت العراق دار الملك، واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة، غيّر المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالاً : مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم . فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين .

المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : [ إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبًا أنه الحق ] وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها، وقال أحمد كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة، ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها، وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة، وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ) .

وفى السنن من حديث سفينة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يصير ملكاً عضوضاً ) . فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدون مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

والمرتبة الثالثة : إذا تعارض في مسألة دليلان، كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة، ففيه نزاع فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة ولأصحاب أحمد وجهان :

أحدهما : وهو قول القاضي أبي يعلى، وابن عقيل أنه لا يرجح .

والثاني : وهو قول أبي الخطاب، وغيره أنه يرجح به قيل هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال : إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريراً كثيراً، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث، ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقه المدنيين حلقه أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين، وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة، كما يرد على أهل الرأي، ويقول إنهم اتبعوا الآثار، فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة .

وأما المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا ؟

فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه [ أصول الفقه ] وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد، قلت : ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر، ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص، لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع، وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطأه فامتنع من ذلك، وقال : [ إن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي ] أو كما قال وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحاً للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة، إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم .

وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم . وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومثل أبي بن كعب ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وغيرهم .

وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك، يفتي بالفتيا ثم يأتي المدينة، فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله، فيرجع إليهم كما؛ جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول، حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة، وسأل عن ذلك، أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات، فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت، وكان أهل المدينة فيما يعملون، إما أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب ويقال : أن مالكاً أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب؛ وسعيد بن المسيب عن عمر؛ وعمر محدث .

وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . وكان عمر يشاور أكابر الصحابة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير؛ وسعد وعبد الرحمن؛ وهم أهل الشورى؛ ولهذا قال الشعبي انظروا ما قضى به عمر؛ فإنه كان يشاور . ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه؛ رضي الله عنهم أجمعين . وكان عمر في مسائل الدين والأصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث ؟ وأمثال ذلك .

فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل علي إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأمثالهم من هو أجل ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود وعلي كان بالمدينة، إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود، وهو نائب عمر وعثمان ومعلوم أن علياً مع هؤلاء أعظم علماً وفضلًا من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه، محتجاً على المناظر بقول علي وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب [ اختلاف علي وعبد الله ] يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما، وجاء بعده محمد بن نصر المروزي، فصنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي قال : إنكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما، وكذلك غيركم يترك ذلك لما هو راجح منه .

ومما يوضح الأمر في ذلك : أن سائر أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشام ومصر مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين .

وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأمثالهم . ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصارفإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب : وعبد الله بن الحكم .

والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، وأمثالهم، لهم روايات معروفة عن مالك . وأما أهل العراق كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة وإسماعيل ونحوه كانوا من أجل علماء الإسلام .

وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحدًا من أهل الكوفة أو غيرها يدعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعًا ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة .

ووجه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها وقوي أمر أهل العراق لحصول على فيها لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر .

ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة قال عبيدة السلماني قاضي على - رضي الله عنه - رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة . ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان ) .

وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه . ومما يوضح الأمر في ذلك أن العلم : إما رواية وإما رأي وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا .

وأما حديثهم فأصح الأحاديث وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة ثم أحاديث أهل البصرة .

وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء ولم يكن فيهم - يعني أهل المدينة، ومكة والبصرة، والشام - من يعرف بالكذب لكن منهم من يضبط ومنهم من لا يضبط .

وأما أهل الكوفة فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم معروفون بالكذب لا سيما الشيعة فإنهم أكثر الطوائف كذبا باتفاق أهل العلم؛ ولأجل هذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذابين ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب فأما إذا علموا صدق الحديث فإنهم يحتجون به كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي فقيل له [ في ] ذلك فقال : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا .

وهذا القول هو القول القديم للشافعي؛ حتى روي أنه قيل له : إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثا لا يحتج به فقال : أن لم يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا شك أن الشافعي رجع عن ذلك وقال لأحمد بن حنبل : أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه شاميًا كان أو بصريًا أو كوفيًا ولم يقل مكيًا أو مدنيًا؛ لأنه كان يحتج بهذا قبل .

وأما علماء أهل الحديث كشعبة ويحيى بن سعيد وأصحاب الصحيح والسنن فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم فيعلمون من بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي وشريح القاضي ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم فلهذا صار علماء أهل الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من المسلمين من أهل العلم بالسنة .

وأما الفقه والرأي فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين ولما حدث الكلام في الرأي في أوائل الدولة العباسية وفرع لهم ربيعة بن هرمز فروعًا كما فرع عثمان البستي وأمثاله بالبصرة وأبو حنيفة وأمثاله بالكوفة وصار في الناس من يقبل ذلك وفيهم من يرد وصار الرادون لذلك مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري وابن عيينة وأمثالهم، فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد ردًا، فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما لا يحمد وهم فوقهم فيما يحمدونه وبهذا يظهر الرجحان .

وأما ما قال هشام بن عروة : لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى فشا فيهم المولدون : أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا .

قال ابن عيينة : فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي إنما هو من المولدين أبناء سبايا الأمم وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة والذين بالمدينة أحمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة . ولما قال مالك - رضي الله عنه - عن إحدى الدولتين إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة الأخرى قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان؛ لأن أولئك أولى بالخلافة نسبًا وقرنًا .

وقد كان المنصور والمهدي والرشيد - وهم سادات خلفاء بني العباس - يرجحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء أهل الشام ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثرت الأحداث فيهم وضعفت الخلافة .

ثم أن بغداد إنما صار فيها من العلم والإيمان ما صار وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة بها وأظهر حقائق الإسلام مثل أحمد بن حنبل وأبي عبيد وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في الأصول والفروع وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الأمصار وانتشر أيضًا من ذلك الوقت في المشرق والمغرب، فصار في المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وأصحابه وأصحاب عبد الله بن المبارك وصار إلى المغرب، من علم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما لا يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة .

أما أحوال الحجاز فلم يكن بعد عصر مالك وأصحابه من علماء الحجاز من يفضل على علماء المشرق والعراق والمغرب .

وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام . إذا تبين ذلك، فلا ريب عند أحد أن مالكًا - رضي الله عنه - أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه كان له من المكانة عند أهل الإسلام - الخاص منهم والعام - ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفا وسبعمائة أو نحوها وهؤلاء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة سنة فكيف بمن انقطعت أخبارهم أو لم يتصل إليه خبرهم فإن الخطيب توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة وعصره وعصر ابن عبد البر، والبيهقي، والقاضي أبي يعلى، وأمثال هؤلاء واحد ومالك، توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وتوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين؛ ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله من موطأ مالك .

وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه . وهذا لا يعارض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم ومن رجح مسلمًا فإنه رجحه بجمعه ألفاظ أحاديث في مكان واحد فإن، ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث .

وأما من زعم أن الأحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم أصح من الأحاديث التي انفرد بها البخاري ومن الرجال الذين انفرد بهم، فهذا غلط لا يشك فيه عالم كما لا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ وأنه أفقه منه، إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة وإن كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم أن يرجع على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل والغالب بخلاف ذلك فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم .

وإنما كان هذان الكتابان كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك ولا ريب أن ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصح الكتب؛ لأنه أصح منقولاً عن المعصوم من الكتب المصنفة .

وأما الموطأ ونحوه فإنه صنف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن وقال : ( من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه ) . ثم نسخ ذلك عند جمهور العلماء، حيث ( أذن في الكتابة لعبد الله بن عمرو وقال : اكتبوا لأبي شاه ) .

وكتب لعمرو بن حزم كتابًا قالوا : وكان النهي أولًا خوفًا من اشتباه القرآن بغيره ثم أذن لما أمن ذلك فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون وكتبوا أيضًا غيره .

ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابع التابعين فصنف العلم فأول من صنف ابن جريج شيئًا في التفسير وشيئًا في الأموات .

وصنف سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة ومعمر وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين .

وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم والأصول والفروع بعد القرآن فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة . وصنف بعد عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير هؤلاء فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي - رحمه الله - فقال : ليس بعد القرآن كتاب أكثر صوابًا من موطأ مالك فإن حديثه أصح من حديث نظرائه وكذلك الإمام أحمد لما سئل عن حديث مالك ورأيه وحديث غيره ورأيهم ؟ رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم .

وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة ) .

فقد روي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا : هو مالك . والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان : أحدهما : الطعن في الحديث فزعم بعضهم أن فيه انقطاعًا .

والثاني : أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه . فيقال : ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر متقرر لمن كان موجودا وبالتواتر لمن كان غائبا، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك .

وهذا يقرر بوجهين : أحدهما : بطلب تقديمه على مثل الثوري والأوزاعي والليث وأبي حنيفة وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام . والثاني : أن يقال : أن مالكا تأخر موته عن هؤلاء كلهم فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك . فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده رحل إليه من المشرق والمغرب ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد والملوك والعامة . وانتشر موطؤه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشارًا من الموطأ وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما وكان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك والحجازيين تمتلئ داره وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت . وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وابن عيينة .

ومعلوم عند كل أحد أن مالكًا أجل من ابن عيينة حتى إنه كان يقول : إني ومالك كما قال القائل :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس

ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلًا صالحًا زاهدًا آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من علمه، ولا رحلوا إليه فيه . وكان إذا أراد أمرًا يستشير مالكًا ويستفتيه كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق أن يتولى الخلافة فقال : حتى أشاور مالكًا فلما استشاره أشار عليه أن لا يدخل في ذلك وأخبره أن هذا لا يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة وذكر له ما ذكره عمر بن عبد العزيز - لما قيل له : ولِ القاسم بن محمد - أن بني أمية لا يدعون هذا الأمر حتى تراق فيه دماء كثيرة . وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم، لم يعلم أن الناس أخذوا عن العمري الزاهد منها ما يذكر فكيف يقرن هذا بمالك في العلم ورحلة الناس إليه ؟ .

ثم هذه كتب الصحيح التي أجل ما فيها كتاب البخاري أول ما يستفتح الباب بحديث مالك وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالمًا أعلم من مالك في وقته .

والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة : إما موافق، وإما منازع فالموافق لهم عضد ونصير والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم .

وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدودًا من أئمة العلم وذلك لعلمهم أن مالكًا هو القائم بمذهب أهل المدينة .

وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، فإن موطأه مشحون : إما بحديث أهل المدينة، وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة : إما قديمًا، وإما حديثًا، وإما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولا ويقول : هذا أحسن ما سمعت .

فأما بآثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر أنه كان في الأزمان المتقدمة من هو أتبع لمذهب أهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك .

ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على مالك مخالفته أولا لأحاديثهم في بعض المسائل كما يذكر عن عبد العزيز الدراوردي أنه قال له في مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة : تعرقت يا أبا عبد الله أي : صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السرقة لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم .

وأما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم، أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحاح . فيقال : أولا : أن مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة، وإنهم كانوا يكرهون للرجل أن يوافقهم وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك كما قال ابن عمر لما استفتاه عن دم البعوض وكما قال ابن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة .

وأما ثانيًا : فمثل هذا في قول مالك قليل جدا وما من عالم إلا وله ما يرد عليه وما أحسن ما قال ابن خويز منداد في مسألة بيع كتب الرأي والإجارة عليها : لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم، لكنه أقل خطأ من غيره .

وأما الحديث فأكثره نجد مالكا قد قال به في إحدى الروايتين وإنما تركه طائفة من أصحابه كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه .

وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقًا للحديث الصحيح الذي رواه، لكن ابن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الأولى ومعلوم أن مدونة ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرعها أهل العراق ثم سأل عنها أسد ابن القاسم . فأجابه بالنقل عن مالك وتارة بالقياس على قوله ثم أصلها في رواية سحنون فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة .

ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك ثم رواية غيره فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها وقد تكون مرجوحة في المذهب وعمل أهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك وما زال يحدث به إلى أن مات لرواية ابن القاسم وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك فمثل هذا أن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة إلا وله قول يوافقها بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة، فإنهم كثيرا ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك .

ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما حتى أن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجح محمد لصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي : بالإنصاف أو بالمكابرة ؟ قال له : بالإنصاف فقال : ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم ؟ فقال : بل صاحبكم فقال صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم صاحبكم ؟ فقال : بل صاحبكم فقال : صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم صاحبكم ؟ فقال : بل صاحبكم فقال : ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس، ونحن نقول بالقياس ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح . وقالوا للإمام أحمد : من أعلم بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : مالك أم سفيان ؟ فقال : بل مالك . فقيل له : أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان ؟ فقال : بل مالك . فقيل له : أيما أزهد مالك أم سفيان ؟ فقال : هذه لكم .

ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي : كانوا متقاربين في العصر وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر وكان أبو يوسف يتفقه أولا على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه وصنف كتاب [ اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ] .

وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره وهو المسمى بكتاب [ اختلاف العراقيين ] .

ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري بل سفيان عندهم أمام العراق فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق .

وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها وهو يعظم سفيان غاية التعظيم ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها .

وأحمد كان معتدلاً عالمًا بالأمور يعطي كل ذي حق حقه، ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه، ويدعو له، ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره .

وكان الشافعي يقول : سموني ببغداد ناصر الحديث . ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة، واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جدا وهو كان على مذهب أهل الحجاز وكان قد تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج كمسلم بن خالد الزنجي، وسعيد بن سالم القداح ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ وكمل أصول أهل المدينة وهم أجل علما وفقها وقدرا من أهل مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق ثم ذهب إلى الحجاز . ثم قدم إلى العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف بـ [ الحجة ] .

واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق واجتمع به بمكة وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه وتناظرا بحضور أحمد رضي الله عنهم أجمعين .

ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم وهي من جنس كذب القصاص ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيًا في أذى الشافعي قط ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة .

ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز فيقول : قال : بعض أصحابنا وهو يعني : أهل المدينة، أو بعض علماء أهل المدينة كمالك ويقول في أثناء كلامه : وخالفنا بعض المشرقيين وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحدًا منهم ينسب إلى أصحابهم واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب لكن أهل المدينة أجل عند الجميع .

ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - لما كان مجتهدًا في العلم ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه وإن خالف قول أصحاب المدنيين، قام بما رآه واجبًا عليه وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه وقد أحسن الشافعي فيما فعل وقام بما يجب عليه وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه وجرت محنة مصرية معروفة والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .

وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك وكل ذلك اتباعا للدليل وقياما بالواجب .

 

 

 

مجموع فتاوى ابن تيمية
المجلد العشـــرون
( 393 من 645 )

السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي

 

 

والشافعي - رضي الله عنه - قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه محمد : يا بني الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج فما بينك وبين أن تقول : قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر .

قال محمد : فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي داودفقلت : قال ابن القاسم فقال : ومن ابن القاسم ؟ فقلت : رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى الغرب وأظنه قال : قلت : رحم الله أبي .

وكان مقصود أبيه : اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة فإنها تقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يخص به هذا وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم أو باب منه أو مسألة وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر .

لكن جملة مذاهب أهل المدينة النبوية راجحة في الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق، وذلك يظهر بقواعد جامعة :

منها : قاعدة الحلال والحرام المتعلقة بالنجاسات في المياه، فإنه من المعلوم أن الله قال في كتابه : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف 156، 157 ] . فالله تعالى أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان : ما خبثه لعينه لمعنى قام به، كالدم والميتة ولحم الخنزير . وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما؛ أو بعقد محرم كالربا والميسر . فأما الأول : فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله، وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته، كالسموم والله قد حرم علينا أشياء من المطاعم والمشارب، وحرم أشياء من الملابس .

ومعلوم أن مذهب أهل المدينة في الأشربة أشد من مذهب الكوفيين؛ فإن أهل المدينة وسائر الأمصار وفقهاء الحديث؛ يحرمون كل مسكر، وأن كل مسكر خمر وحرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولم يتنازع في ذلك أهل المدينة لا أولهم ولا آخرهم، سواء كان من الثمار أو الحبوب؛ أو العسل أو لبن الخيل أو غير ذلك .

والكوفيون لا خمر عندهم إلا ما اشتد من عصير العنب، فإن طبخ قبل الاشتداد حتى ذهب ثلثاه حل، ونبيذ التمر والزبيب محرم؛ إذا كان مسكرًا نيئًا فإن طبخ أدنى طبخ حل، وإن أسكر .

وسائر الأنبذة تحل، وإن أسكرت، لكن يحرمون المسكر منها .

وأما الأطعمة : فأهل الكوفة أشد فيها من أهل المدينة؛ فإنهم مع تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ وتحريم اللحم حتى يحرمون الضب والضبع والخيل، تحرم عندهم في أحد القولين، ومالك يحرم تحريمًا جازمًا ما جاء في القرآن فذوات الأنياب إما أن يحرمها تحريمًا دون ذلك، وإما أن يكرهها في المشهور، وروي عنه كراهة ذوات المخالب، والطير لا يحرم منها شيئًا، ولا يكرهه، وإن كان التحريم على مراتب، والخيل يكرهها، ورويت الإباحة والتحريم أيضًا .

ومن تدبر الأحاديث الصحيحة في هذا الباب علم أن أهل المدينة أتبع للسنة، فإن باب الأشربة قد ثبت فيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأحاديث ما يعلم من علمها أنها من أبلغ المتواترات، بل قد صح عنه في النهي عن الخليطين والأوعية ما لا يخفى على عالم بالسنة، وأما الأطعمة، فإنه وإن قيل : إن مالكا خالف أحاديث صحيحة في التحريم ففي ذلك خلاف .

والأحاديث الصحيحة التي خالفها؛ من حرم الضب وغيره تقاوم ذلك أو تربو عليه ثم إن هذه الأحاديث قليلة جدًا بالنسبة إلى أحاديث الأشربة . وأيضًا فمالك معه في ذلك آثار عن السلف كابن عباس؛ وعائشة؛ وعبد الله بن عمر وغيرهم، مع ما تأوله من ظاهر القرآن . ومبيح الأشربة ليس معه، لا نص، ولا قياس، بل قوله مخالف للنص والقياس .

وأيضًا فتحريم جنس الخمر، أشد من تحريم اللحوم الخبيثة، فإنها يجب اجتنابها مطلقا، ويجب على من شربها الحد، ولا يجوز اقتناؤها .

وأيضًا فمالك جوز إتلاف عينها، اتباعًا لما جاء من السنة في ذلك، ومنع من تخليلها وهذا كله فيه من اتباع السنة ما ليس في قول من خالفه من أهل الكوفة، فلما كان تحريم الشارع للأشربة المسكرة أشد من تحريمه للأطعمة؛ كان القول الذي يتضمن موافقة الشارع أصح .

ومما يوضح هذا؛ أن طائفة من أهل المدينة استحلت الغناء، حتى صار يحكى ذلك عن أهل المدينة، وقد قال عيسى بن إسحاق الطباع : سئل مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء ؟ فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . ومعلوم أن هذا أخف مما استحله من استحل الأشربة، فإنه ليس في تحريم الغناء من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما في تحريم الأشربة المسكرة، فعلم أن أهل المدينة أتبع للسنة .

ثم إن من أعظم المسائل مسألة اختلاط الحلال بالحرام لعينه، كاختلاط النجاسات بالماء وسائر المائعات، فأهل الكوفة يحرمون كل ماء أو مائع وقعت فيه نجاسة، قليلًا كان أو كثيرًا ثم يقدرون مالا تصل إليه النجاسة بما لا تصل إليه الحركة، ويقدرونه بعشرة أذرع في عشرة أذرع، ثم منهم من يقول : أن البئر إذا وقعت فيها النجاسة لم تطهر بل تطم . والفقهاء منهم من يقول : تنزح إما دلاء مقدرة منها، وإما جميعها على ما قد عرف لأجل قولهم : ينجس الماء والمائع بوقوع النجاسة فيه، وأهل المدينة بعكس ذلك فلا ينجس الماء عندهم إلا إذا تغير . لكن لهم في قليل الماء، هل يتنجس بقليل النجاسة ؟ قولان : ومذهب أحمد قريب من ذلك، وكذلك الشافعي، لكن هذان يقدران القليل بما دون القلتين، دون مالك، وعن مالك في الأطعمة خلاف .

وكذلك في مذهب أحمد نزاع في سائر المائعات، ومعلوم أن هذا أشبه بالكتاب والسنة فإن اسم الماء باق، والاسم الذي به أبيح قبل الوقوع باق، وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر بضاعة وغيره على أنه لا يتنجس، ولم يعارض ذلك إلا حديث ليس بصريح في محل النزاع فيه، وهو حديث النهي عن البول في الماء الدائم، فإنه قد يخص

البول، وخص بعضهم أن يبال فيه دون أن يجري إليه البول، وقد يخص ذلك بالماء

القليل، وقد يقال النهي عن البول لا مستلزم التنجيس، بل قد ينهى عنه لأن ذلك يفضي الى التنجيس، إذا كثر يقرر ذلك أنه لاتنازع بين المسلمين إن النهي عن البول في الماء الدائم، لا يعم جميع المياه، بل ماء البحر مستثنى بالنص والاجماع، وكذلك المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها، ولا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لا ينجسه البول بالاتفاق، والحديث الصحيح لا يعارضه حديث في هذا الإجمال والاحتمال، وكذلك تنجس الماء المستعمل، ونحوه مذهب أهل المدينة ومن وافقهم في طهارته ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم، كحديث صب وضوئه على جابر، وقوله المؤمن لا ينجس، وأمثال ذلك، وكذلك بول الصبي الذي لم يطعم مذهب بعض أهل المدينة، ومن وافقهم لهم فيه أحاديث صحيحة، عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعارضها شيء، وكذلك مذهب مالك، وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة، في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث، مما يؤكل لحمه وعلى ذلك بضع عشرة حجة من النص والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك، ولما كانت النجاسات من الخبائث المحرمة لأعيانها، ومذهبهم في ذلك أخذ من مذهب الكوفيين، كما في الأطعمة، كان ما ينجسونه أولئك أعظم، وإذا قيل له خالف حديث الولوغ ونحوه، في النجاسات فهو كما يقال أنه خالف حديث سباع الطير ونحوه ولا ريب أن هذا أقل مخالفة للنصوص ممن ينجس روث ما يؤكل لحمه وبوله، أو بعض ذلك، أو يكره سؤر الهرة، وقد ذهب بعض الناس إلى أن جميع

الأرواث والأبوال طاهرة، إلا بول الإنسي وعذرته، وليس هذا القول بأبعد في الحجة من قول من ينجس الذي يذهب إليه أهل المدينة، من أهل الكوفة، ومن وافقهم، ومن تدبر مذهب أهل المدينة وكان عالمًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين له قطعًا أن مذهب أهل المدينة المنتضم للتيسير في هذا الباب أشبه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المذهب المنتظم للتعسير، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما بال الأعرابي في المسجد وأمرهم بالصب على بوله قال : إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومن خالفهم يقول أنه يغسل ولا يجزى الصب وروي في ذلك حديثًا مرسلًا لا يصح .

فصل

وأما النوع الثاني من المحرمات وهو المحرم لكسبه؛ كالمأخوذ ظلمًا بأنواع الغصب من السرقة والخيانة والقهر؛ وكالمأخوذ بالربا والميسر؛ وكالمأخوذ عوضًا عن عين أو نفع محرم؛ كثمن الخمر والدم ; والخنزير والأصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن؛ وأمثال ذلك : فمذهب أهل المدينة في ذلك من أعدل المذاهب فإن تحريم الظلم، وما يستلزم الظلم أشد من تحريم النوع الأول؛ فإن الله حرم الخبائث من المطاعم إذ هي تغذى تغذية خبيثة، توجب للإنسان الظلم، كما إذا اغتذى من الخنزير والدم والسباع؛ فإن المغذى شبيه بالمغتذى به فيصير في نفسه من البغي والعدوان بحسب ما اغتذى منه . وإباحتها للمضطر لأن مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع هذه المفسدة، مع أن ذلك عارض لا يؤثر فيه مع الحاجة الشديدة أثرًا يضر . وأما الظلم فمحرم قليله وكثيره وحرمه تعالى على نفسه، وجعله محرمًا على عباده . وحرم الربا لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له، وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج وأما المقامر فقد يحصل له فضل، وقد لا يحصل له، وقد يقمر هذا هذا، وقد يكون بالعكس .

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ وعن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع حبل الحبلة . ونحو ذلك مما فيه نوع مقامرة، وأرخص في ذلك فيما تدعو الحاجة إليه، ويدخل تبعًا لغيره كما أرخص في ابتياعها بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح، وإن كان بعض أجزائها لم يخلق، وكما أرخص في ابتياع النخل المؤبّر مع جديده إذا اشترطه المبتاع وهو لم يبد صلاحه، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وكذلك سائر الشجر الذي فيه ثمر ظاهر، وجعل للبائع ثمرة النخل المؤبّر، إذا لم يشترطها المشتري فتكون الشجرة للمشتري، والبائع ينتفع بها، بإبقاء ثمره عليها إلى حين الجذاذ . وقد ثبت في الصحيح أنه أمر بوضع الجوائح وقال : ( إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ ) . ومذهب مالك وأهل المدينة في هذا الباب أشبه بالسنة، والعدل من مذهب من خالفهم من أهل الكوفة وغيرهم، وذلك أن مخالفهم جعل البيع إذا وقع على موجود جاز، سواء كان قد بدا صلاحه أو لم يكن قد بدا صلاحه، وجعل موجب كل عقد قبض المبيع عقبه، ولم يجز تأخير القبض فقال : أنه إذا اشترى الثمر باديًا صلاحه أو غير باد صلاحه جاز وموجب العقد القطع في الحال لا يسوغ له تأخير الثمر إلى تكمل صلاحه ولا يجوز له أن يشترطه . وجعلوا ذلك القبض قبضًا ناقلًا للضمان إلى المشتري دون البائع وطردوا ذلك فقالوا : إذا باع عينًا مؤجرة لم يصح لتأخير التسليم وقالوا : إذا استثنى منفعة المبيع : كظهر البعير وسكنى الدار لم يجز وذلك كله فرع على ذلك القياس . وأهل المدينة وأهل الحديث خالفوهم في ذلك كله، واتبعوا النصوص الصحيحة، وهو موافقة القياس الصحيح العادل، فإن قول القائل : العقد موجب القبض عقبه؛ يقال له : موجب العقد إما أن يتلقى من الشارع؛ أو من قصد العاقد، والشارع ليس في كلامه ما يقتضي أن هذا يوجب موجب العقد مطلقًا، وأما المتعاقدان فهما تحت ما تراضيا به ويعقدان العقد عليه، فتارة يعقدان على أن يتقابضا عقبه، وتارة على أن يتأخر القبض كما في الثمر؛ فإن العقد المطلق يقتضي الحلول؛ ولهما تأجيله إذا كان لهما في التأجيل مصلحة فكذلك الأعيان؛ فإذا كانت العين المبيعة فيها منفعة للبائع أو غيره كالشجر الذي ثمره ظاهر، وكالعين المؤجرة وكالعين التي استثنى البائع نفعها مدة، لم يكن موجب هذا العقد أن يقتضي المشتري ما ليس له؛ وما لم يملكه إذا كان له أن يبيع بعض العين دون بعض، كان له أن يبيعها دون منفعتها . ثم سواء قيل : إن المشتري يقبض العين أو قيل : لا يقبضها بحال : لا يضر ذلك؛ فإن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض، إما في الضمان، وإما في جواز التصرف . وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري .

ولهذا ذهب إلى ذلك أهل المدينة وأهل الحديث؛ فإن تعليق الضمان بالتمكين من القبض، أحسن من تعليقه بنفس القبض، وبهذا جاءت السنة ففي الثمار التي أصابتها جائحة لم يتمكن المشتري من الجذاذ، وكان معذورًا، فإذا تلفت كانت من ضمان البائع؛ ولهذا التي تلفت بعد تفريطه في القبض كانت من ضمانه، والعبد والدابة التي تمكن من قبضها تكون من ضمانه على حديث علي وابن عمر . ومن جعل التصرف تابعًا للضمان فقد غلط؛ فإنهم متفقون على أن منافع الإجارة إذا تلفت قبل تمكن المستأجر من استيفائها كانت من ضمان المؤجر، ومع هذا للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة لئلا يكون ذلك ربحًا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر، فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه، ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم يكن من ضمانه . وهذا هو الأصل أيضًا؛ فقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال كنا نبتاع الطعام جزافًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا .

وابن عمر هو القائل : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري .

فتبين أن مثل هذا الطعام مضمون على المشتري، ولا يبيعه حتى ينقله، وغلة الثمار والمنافع له أن يتصرف فيها، ولو تلفت قبل التمكن من قبضها، كانت من ضمان المؤجر، والبائع والمنافع لا يمكن التصرف فيها إلا بعد استيفائها، وكذلك الثمار لا تباع على الأشجار بعد الجذاذ، بخلاف الطعام المنقول . والسنة في هذا الباب فرقت بين القادر على القبض، وغير القادر في الضمان والتصرف، فأهل المدينة أتبع للسنة في هذا الحكم كله، وقولهم أعدل من قول من يخالف السنة . ونظائر هذا كثير مثل بيع الأعيان الغائبة : من الفقهاء من جوز بيعها مطلقًا، وإن لم توصف، ومنهم من منع بيعها مع الوصف؛ ومالك جوز بيعها مع الصفة دون غيرها وهذا أعدل . والعقود من الناس من أوجب فيها الألفاظ وتعاقب الإيجاب والقبول ونحو ذلك، وأهل المدينة جعلوا المرجع في العقود إلى عرف الناس وعادتهم، فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، وهذا أشبه بالكتاب والسنة وأعدل فإن الأسماء منها ما له حد في اللغة، كالشمس والقمر، ومنها ما له حد في الشرع كالصلاة والحج، ومنها ما ليس له حد لا في اللغة ولا في الشرع بل يرجع إلى العرف كالقبض . ومعلوم أن اسم البيع والإجارة والهبة، في هذا الباب لم يحدها الشارع، ولا لها حد في اللغة؛ بل يتنوع ذلك بحسب عادات الناس وعرفهم، فما عدوه بيعًا فهو بيع، وما عدوه هبة فهو هبة، وما عدوه إجارة فهو إجارة . ومن هذا الباب أن مالكاَ يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت وبيع المقاثي جملة، كما يُجَوز هو والجمهور بيع الباقلاء ونحوه في قشره . ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم وإلى هذا التاريخ، ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا، وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه، وكل واحد من هذين يبيح ذلك، فكيف إذا اجتمعا ؟ وكذلك ما يجوز مالك من منفعة الشجر تبعًا للأرض مثل أن يكري أرضًا أو دارًا فيها شجرة أو شجرتان هو أشبه بالأصول من قول من منع ذلك . وقد يجوز ذلك طائفة من أصحاب أحمد بن حنبل مطلقًا، وجوزوا ضمان الحديقة التي فيها أرض وشجر، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل الحديقة من أسيد بن الحضير ثلثًا، وقضى بما تسلفه دينًا، كان عليه وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع . وهذا يتبين بذكر الربا؛ فإن تحريم الربا أشد من تحريم القمار , لأنه ظلم محقق , والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين : غنيًا وفقيرًا أوجب على الأغنياء الزكاة، حقًا للفقراء، ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء، وقال تعالى : { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة 276 ] . وقال تعالى : { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [ الروم 39 ] . فالظالمون يمنعون الزكاة، ويأكلون الربا، وأما القمار فكل من المتقامرين قد يقمر الآخر، وقد يكون المقمور هو الغني أو يكونان متساويين في الغنى والفقر، فهو أكل مال بالباطل، فحرمه الله، لكن ليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج . ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحيل على استحلاله، وسدوا الذريعة المفضية إليه، فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه ؟ بل يدل الناس على ذلك . وهذا يظهر بذكر مثلًا ربا الفضل وربا النسأ . أما ربا الفضل فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، واتفق جمهور الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب بجنسه إلا مثلًا بمثل؛ إذ الزيادة على المثل أكل مال بالباطل وظلم، فإذا أراد المدين أن يبيع مائة دينار مكسور، وزنه مائة وعشرون دينارًا؛ يسوغ له مبيح الحيل أن يضيف إلى ذلك رغيف خبز أو منديل يوضع فيه مائة دينار؛ ونحو ذلك مما يسهل على كل مرب فعله : لم يكن لتحريم الربا فائدة ولا فيه حكمة ولا يشاء مرب أن يبيع نوعًا من هذا بأكثر منه من جنسه إلا أمكنه أن يضم إلى القليل ما لا قدر له من هذه الأمور . وكذلك إذا سوغ لهما أن يتواطآ على أن يبيعه إياه بعرض لا قصد للمشتري فيه , ثم يبتاعه منه بالثمن الكثير أمكن طالب الربا أن يفعل ذلك .

ومعلوم أن من هو دون الرسول، إذا حرم شيئًا لما فيه من الفساد، وأذن أن يفعل بطريق لا فائدة فيه، لكان هذا عيبًا وسفهًا؛ فإن الفساد باق، ولكن زادهم غشًا، وإن كان فيه كلفة فقد كلفهم ما لا فائدة فيه، فكيف يظن هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ بل معلوم أن الملوك لو نهوا عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، واحتال المنهي على ما نهي عنه بمثل هذه الطريق، لعدوه لاعبًا مستهزئًا بأوامرهم وقد عذب الله أهل الجنة الذين احتالوا على ألا يتصدقوا، وعذب الله القرية التي كانت حاضرة البحر لما استحلوا المحرم بالحيلة، بأن مسخهم قردة وخنازير، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل ) . وقد بسطنا الكلام على [ قاعدة إبطال الحيل وسد الذرائع ] في كتاب كبير مفرد، وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .

وكذلك ربا النسأ فإن أهل ثقيف الذين نزل فيهم القرآن، أن الرجل كان يأتي إلى الغريم عند حلول الأجل فيقول : أتقضي أم تربي ؟ فإن لم يقضه وإلا زاده المدين في المال، وزاده الطالب في الأجل، فيضاعف المال في المدة لأجل التأخير . وهذا هو الربا الذي لا يشك فيه باتفاق سلف الأمة، وفيه نزل القرآن، والظلم والضرر فيه ظاهر . والله سبحانه وتعالى أحل البيع، وأحل التجارة، وحرم الربا، فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك، والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه، وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له، لم يبع ولم يتجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها؛ بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له، ولا للناس .

فإذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم، مثل أن تواطآ على أن يبيعه ثم يبتاعه، فهذه بيعتان في بيعة، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ) مثل أن يدخل بينهما محللًا يبتاع منه أحدهما ما لا غرض له فيه ليبيعه آكل الربا لموكله في الربا ثم الموكل يرده إلى المحلل بما نقص من الثمن .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ) ( ولعن المحلل والمحلل له ) . ومثل أن يضما إلى الربا نوع قرض، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ) ، خطأ ثم ( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة ) . وهو اشتراء الثمر والحب بخرص، وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى؛ لأن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي كالعلم بالتفاضل، والخرص لا يعرف مقدار المكال، إنما هو حزر وحدس، وهذا متفق عليه بين الأئمة . ثم إنه قد ثبت عنه أنه أرخص في العرايا يبتاعها أهلها بخرصها تمرًا، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة، كما أنه في العلم بالزكاة وفي المقاسمة أقام الخرص مقام الكيل، فكان يخرص الثمار على أهلها يحصي الزكاة، وكان عبد الله بن رواحة يقاسم أهل خيبر خرصًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا أمكن التقدير بالكيل فعل، فإذا لم يمكن كان الخرص قائمًا مقامه للحاجة كسائر الأبدال في المعلوم والعلامة؛ فإن القياس يقوم مقام النص عند عدمه والتقويم يقوم مقام المثل، وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى .

ومن هذا الباب القافة التي هي استدلال بالشبه على النسب، إذا تعذر الاستدلال بالقرائن؛ إذ الولد يشبه والده في الخرص والقافة والتقويم أبدال في العلم كالقياس مع النص، وكذلك العدل في العمل؛ فإن الشريعة مبناها على العدل، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد 25 ] . { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة 286 ] .

والله قد شرع القصاص في النفوس والأموال والأعراض بحسب الإمكان فقال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [ البقرة 178 ] . الآية وقال تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة 45 ] . الآية وقال تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى 40 ] الآية وقال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة 194 ] الآية وقال تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } [ النحل 126 ] . الآية فإذا قتل الرجل من يكافئه عمدًا عدوانًا، كان عليه القود، ثم يجوز أن يفعل به مثل ما فعل؛ كما يقوله أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد في إحدى الروايتين بحسب الإمكان؛ إذا لم يكن تحريمه بحق الله كما إذا رضخ رأسه كما ( رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية ) كان ذلك أتم في العدل بمن قتله بالسيف في عنقه، وإذا تعذر القصاص عدل إلى الدية، وكانت الدية بدلًا لتعذر المثل . وإذا أتلف له مالًا؛ كما لو تلفت تحت يده العارية : فعليه مثله، إن كان له مثل، وإن تعذر المثل كانت القيمة، وهي الدراهم والدنانير، بدلًا عند تعذر المثل، ولهذا كان من أوجب المثل في كل شيء، بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة أقرب إلى العدل ممن أوجب القيمة من غير المثل، وفي هذا كانت قصة داود وسليمان . وقد بسطنا الكلام على هذه الأبواب كلها في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا : التنبيه .

وحينئذ فتجويز العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة عند تعذر بيعها بالكيل، موافق لأصول الشريعة مع ثبوت السنة الصحيحة فيه، وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومالك جوز الخرص في نظير ذلك للحاجة، وهذا عين الفقه الصحيح . ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي، وأحمد في جزاء الصيد : أنه يضمن بالمثل في الصورة، كما مضت بذلك السنة وأقضية الصحابة، فإن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش، وقضت الصحابة في النعامة ببدنة، وفي الظبي بشاة، وأمثال ذلك . ومن خالفهم من أهل الكوفة، إنما يوجب القيمة في جزاء الصيد، وأنه يشتري بالقيمة الأنعام والقيمة مختلفة باختلاف الأوقات .

 

فصل

ولما كان المحرم نوعين : نوع لعينه، ونوع لكسبه؛ فالكسب الذي هو معاملة الناس نوعان : معاوضة؛ ومشاركة . فالمبايعة والمؤاجرة، ونحو ذلك هي المعاوضة . وأما المشاركة، فمثل مشاركة العنان وغيرها من المشاركات . ومذهب مالك في المشاركات من أصح المذاهب وأعدلها؛ فإنه يجوز شركة العنان والأبدان وغيرهما، ويجوز المضاربة والمزارعة والمساقاة، والشافعي لا يجوز من الشركة إلا ما كان تبعًا لشركة الملك؛ فإن الشركة نوعان : شركة في الأملاك؛ وشركة في العقود . فأما شركة الأملاك، كاشتراك الورثة في الميراث، فهذا لا يحتاج إلى عقد، ولكن إذا اشترك اثنان في عقد، فمذهب الشافعي أن الشركة لا تحصل بعقد ولا تحصل القسمة بعقد . وأحمد تحصل الشركة عنده بالعقد والقسمة بالعقد، فيجوز شركة العنان مع اختلاف المالين وعدم الاختلاط، وإذا تحاسب الشريكان عنده من غير إفراز كان ذلك قسمة حتى لو خسر المال بعد ذلك لم تجبر الوضيعة بالربح . والشافعي لا يجوز شركة الأبدان ولا الوجوه ولا الشركة بدون خلط المالين، ولا أن يشترط لأحدهما ربحًا زائدًا على نصيب الآخر من ماله إذ لا تأثير عنده للعقد، وجوز المضاربة وبعض المساقاة والمزارعة تبعًا لأجل الحاجة لا لوفق القياس . وأما أبو حنيفة نفسه فلا يجوز مساقاة ولا مزارعة؛ لأنه رأى ذلك من باب المؤاجرة، والمؤاجرة لا بد فيها من العلم بالأجرة . ومالك في هذا الباب أوسع منهما، حيث جوز المساقاة على جميع الثمار، مع تجويز الأنواع من المشاركات التي هي شركة العنان والأبدان، لكنه لم يجوز المزارعة على الأرض البيضاء موافقة للكوفيين . وأما قدماء أهل المدينة هم وغيرهم من الصحابة والتابعين، فكانوا يجوزون هذا كله، وهو قول الليث؛ و ابن أبي ليلى وأبي يوسف؛ ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره .

والشبهة التي منعت أولئك المعاملة : أنهم ظنوا أن هذه المعاملة إجارة، والإجارة لا بد فيها من العلم بقدر الأجرة، ثم استثنوا من ذلك المضاربة لأجل الحاجة؛ إذ الدراهم لا تؤجر . والصواب أن هذه المعاملات من نفس المشاركات، لا من جنس المعاوضات؛ فإن المستأجر يقصد استيفاء العمل، كما يقصد استيفاء عمل الخياط والخباز والطباخ ونحوهم، وأما في هذا الباب فليس العمل هو المقصود، بل هذا يبذل نفع بدنه، وهذا يبذل نفع ماله ليشتركا فيما رزق الله من ربح، فإما يغنمان جميعًا أو يغرمان جميعًا وعلى هذاعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع .

والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من كراء المزارعة، في حديث رافع بن خديج وغيره، متفق عليه كما ذكره الليث وغيره؛ فإنه ( نهى أن يكرى بما تنبت الماذيانات والجداول وشيء من التبن ) فربما غل هذا، ولم يغل هذا، فنهى أن يعين المالك زرع بقعة بعينها، كما نهى في المضاربة أن يعين العامل مقدارًا من الربح وربح ثوب بعينه، لأن ذلك يبطل العدل في المشاركة . وأصل أهل المدينة في هذا الباب أصح من أصل غيرهم، الذي يوجب أجرة المثل، والأول هو الصواب؛ فإن العقد لم يكن على عمل، ولهذا لم يشترط العلم بالعمل، وقد تكون أجرة المثل أكثر من المال وربحه , فإنما يستحق في الفاسد نظير ما يستحق من الصحيح، فإذا كان الواجب في البيع والإجارة الصحيحة ثمنا وأجرة، وجب في الفاسد قسط من الربح كان الواجب في الفاسد قسطًا من الربح، وكذلك في المساقاة والمزارعة وغيرهما . وما يضعف في هذا الباب من قول متأخري أهل المدينة، فقول الكوفيين فيه أضعف، ويشبه أن يكون هذا كله من الرأي المحدث الذي علم به من عابه من السلف، وأما ما مضت به السنة والعمل فهو العدل .

ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة مخاطرة، والمستأجر قد ينتفع وقد لا ينتفع، بخلاف المساقاة والمزارعة، فإنهما يشتركان في الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما في المؤاجرة .

فصل

وأما العبادات فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كما قال ابن عباس : إذا أردت أن تعرف جهل العرب فاقرأ من قوله : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ } [ الأنعام 136 ] . الآية ; وذلك أن الله ذم المشركين على ما ابتدعوه من تحريم الحرث والأنعام، وما ابتدعوه من الشرك، وذمهم على احتجاجهم على بدعهم بالقدر، قال تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام 148 ] . الآية . وفي الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) وذكر في سورة الأعراف ما حرموه وما شرعوه، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } [ الأعراف 33 ] . الآية وقال : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [ الأعراف 29 ] . الآية فبين لهم ما أمرهم به، وما حرمه هو، وقال ذمًا لهم : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى 21 ] . الآية . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .

والمقصود أنه ليس لأحد أن يحرم إلا ما جاءت الشريعة بتحريمه، وإلا فالأصل عدم التحريم . سواء في ذلك الأعيان والأفعال، وليس له أن يشرع دينًا واجبًا أو مستحبًا ما لم يقم دليل شرعي على وجوبه واستحبابه .

إذا عرف هذا فأهل المدينة أعظم الناس اعتصامًا بهذا الأصل ; فإنهم أشد أهل المدائن الإسلامية كراهية للبدع، وقد نبهنا على ما حرمه غيرهم من الأعيان والمعاملات، وهم لا يحرمونه .

وأما الدين فهم أشد أهل المدائن اتباعًا للعبادات الشرعية، وأبعدهم عن العبادات البدعية . ونظائر هذا كثيرة .

منها أن طائفة من الكوفيين وغيرهم استحبوا للمتوضئ والمغتسل والمصلي ونحوهم أن يتلفظوا بالنية في هذه العبادات، وقالوا : إن التلفظ بها أقوى من مجرد قصدها بالقصد، وإن كان التلفظ بها لم يوجبه أحد من الأئمة . وأهل المدينة لم يستحبوا شيئًا من ذلك وهذا هو الصواب . ولأصحاب أحمد وجهان ; وذلك أن هذه بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، بل كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ولا يقول قبل التكبير شيئًا من هذه الألفاظ، كذلك في تعليمه للصحابة إنما علمهم الافتتاح بالتكبير، فهذه بدعة في الشرع، وهي أيضًا غلط في القصد، فإن القصد إلى الفعل أمر ضروري في النفس، فالتلفظ به من باب العبث، كتلفظ الآكل بنية الأكل ; والشارب بنية الشرب ; والناكح بنية النكاح؛ والمسافر بنية السفر ; وأمثال ذلك .

ومن ذلك صفات العبادات فإن مالكًا وأهل المدينة لا يجوزون تغيير صفة العبادة المشروعة فلا يفتتح الصلاة بغير التكبير المشروع، وهو قول الله أكبر كما أن هذا التكبير هو المشروع في الأذان والأعياد، ولا يجوزون أن يقرأ القرآن بغير العربية، ولا يجوزون أن يعدل عن المقصود المنصوص في الزكاة إلى ما يختار المالك من الأموال بالقيمة، وهم في مواقيت الصلاة أتبع للسنة من أهل الكوفة، حيث يستحبون تقديم الفجر والعصر، ويجعلون وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهو آخر وقت الظهر، ويجعلون وقت صلاة العشاء وصلاة المغرب مشتركًا للمعذور، كالحائض إذا طهرت، والمجنون، إذًا ويجوزون الجمع للمسافر الذي جد به السير، والمريض وفى المطر، وهم في

صلاة السفر معتدلون، فإن من الفقهاء من يجعل الاتمام أفضل من القصر، أو يجعل القصر، أفضل لكن لايكره الاتمام، بل يرى أنه الأظهر، وأنه لايقصر إلا أن ينوي القصر، ومنهم من يجعل الاتمام غير جائز، وهم يرون أن السنة هي القصر وإذا ربع كره له ذلك، ويجعلون القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة، ولا ريب أن هذا القول أشبه الأقوال بالسنة .

وكذلك في السنن الراتبة، يجعلون الوتر ركعة واحدة، وإن كان قبلها شفع، وهذا أصح من قول الكوفيين الذين يقولون لاوتر إلا كالمغرب، مع أن تجويز كليهما أصح لكن الفصل أفضل من الوصل .

فقولهم أرجح من قول الكوفيين مطلقًا، ولا يرون للجمعة قبلها سنة راتبة خلافًا لمن خالفهم من الكوفيين ومالك لا يوقت مع الفرائض شيئًا وبعض العراقيين وقت أشياء بأحاديث ضعيفة، فقول مالك أقرب إلى السنة، وأهل المدينة يرون الجمع والقصر للحاج بعرفة ومزدلفة، والقصر بمنى، سواء كان من أهل مكة، أو غيرهم ولا ريب أن هذا هو الذى مضت به سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وهذا القول أحد الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، ومن قال أنه : لايجوز القصر إلا لمن كان منهم على

مسافة القصر، فقوله مخالف للسنة، وأضعف منه قول من يقول لا يجوز الجمع إلا لمن كان على مسافه القصر، وقد علم أن للجمع أسبابًا غير السفر الطويل، ولهذا كان قول من يقول أنه يجوز الجمع في السفرالقصير , كما يجوز في الطويل أقوى من قول من لايجوزه إلا في الطويل لا في القصير، وظن من قال : هذه الأقوال من أهل العراق، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمنى ثم قال : ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) وهذا باطل عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل الحديث وانما الذى في السنن أنه قال : ذلك لما صلى في مكة في غزوة الفتح، وكذلك قد نقلوا هذا عن عمر .

ويروى أن الرشيد لما حج أمر أبايوسف أن يصلى بالناس فلما سلم قال : يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، فقال له بعض المكيين، أتقول لنا هذا ومن عندنا خرجت السنة وقال هذا من فقهك تكلم، وأنت في الصلاة .

وهذا المكي وافق أبايوسف على ظنه أنهم لايقصرون لكن من قلة فقهه تكلم وتكلم الناسي والجاهل بتحريم الكلام لايبطل صلاته عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى الرواتين ويبطلها، عند أبي حنيفة ولو كان المكي عالمًا بالسنة لقال : ليست هذه السنة، بل قد صلى صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر وعمر، وكذلك صلوا بعرفة ومزدلفة ركعتين، ولم يأمروا من خلفهم من المكيين بإتمام الصلاة فيها، كما هو مذهب أهل المدينة .

ومن ذلك صلاة الكسوف، فإنه قد تواترت السنن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صلاها بركوعين في كل ركعة، واتبع أهل المدينة هذه السنة وخفيت على اهل الكوفة حيث منعوا ذلك وكذلك صلاة الاستسقاء فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الأستسقاء، وأهل المدينة يرون أن يصلى للأستسقاء وخفيت هذه السنة على من أنكر صلاة الأستسقاء من أهل العراق، ومن ذلك تكبيرات العيد الزوائد، فإن غالب السنن والآثار توافق مذهب أهل المدينة سبع بتكبيرات الافتتاح والاحرام، وفى الثانية خمس .

ومن ذلك أن الصلاة هل تدرك بركعة، أو بأقل من ركعة، فمذهب مالك أنها إنما تدرك بركعة، وهذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال ( من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة ) وقال ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ) فمالك يقول في الجمعة والجماعة إنما تدرك بركعة، وكذلك أدراك الصلاة في اخر الوقت وكذلك إدراك الوقت كالحائض إذا طهرت، والمجنون إذا أفاق قبل خروج الوقت، وأبو حنيفة يعلق

الإدراك في الجميع بمقدار التكبيرة حتى في الجمعة، يقول إذا أدرك منها مقدار تكبيرة فقد أدركها، والشافعي وأحمد يوافقان مالكًا في الجمعة، ويختلف قولهما في غيرها، الأكثرون من أصحابهما يوافقون أبا حنيفة في الباقي، ومعلوم أن قول من وافق مالكًا في الجميع أصح نصًا وقياسًا، وقد احتج بعضهم على مالك بقوله في الحديث الصحيح من أدرك سجدة من الصلاة، وليس في هذا حجة لأن المراد بالسجدة الركعة، كما قال ابن عمر حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، و سجدتين بعدهما، ونظائرها متعددة .

ومن ذلك أن مذهب أهل المدينة أن الإمام إذا صلى ناسيًا لجنابته وحدثه، ثم علم أعاد هو ولم يعد المأموم، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، كعمر وعثمان، وعند أبي حنيفة يعيد الجميع، وقد ذكر ذلك رواية عن أحمد والمنصوص المشهور عنه، كقول مالك وهو مذهب الشافعي وغيره ومما يؤيد ذلك أن هذه القصة، جرت لأبي يوسف فإن الخليفة استخلفه في صلاة الجمعة، فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثًا فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة ، فقيل له في ذلك فقال : ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين مع أن صلاة الجمعة فيها خلاف كثير، لكون الإمامة شرطًا فيها، وطرد مالك هذا الأصل أيضًا في سائر خطأ الإمام صلى الإمام باجتهاده فترك ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل أن يكون الإمام لا يرى وجوب قراءة البسملة، أو لا يرى الوضوء من الدم، أو من القهقهة، أو من مس النساء، والمأموم يرى وجوب ذلك، فمذهب مالك صحة صلاة المأموم، وهذا

أحد القولين عن أحمد والشافعي، والقول الآخر لا يصح . كقول أبي حنيفة مذهب أهل المدينة هو الذي لا ريب في صحته، فقد ثبت في صحيح البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم ) وهذا صريح في المسألة، ولأن الإمام صلى باجتهاده، فلا يحكم ببطلان صلاته، ألا ترى أنه ينفذ حكمه إذا حكم باجتهاده، فالائتمام به أولى والمنازع بنى ذلك على أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وهذا غلط فإن الإمام صلى باجتهاده أو تقليده وأنه إن كان مصيبًا فله أجران وإن كان مخطئًا فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له، فكيف يقال : أنه يعتقد بطلان صلاته ثم من المعلوم بالتواتر عن سلف الأمة أن بعضهم ما زال يصلى خلف بعض مع وجود مثل ذلك، فما زال الشافعي وأمثاله يصلون خلف أهل المدينة، وهم لا يقرأون

البسملة سرًا ولا جهرًا ومن المأثور أن الرشيد، احتجم فاستفتى مالكًا فأفتاه بأنه لا وضوء عليه فصلى خلفه أبو يوسف ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء، ومذهب مالك والشافعي أنه لاينقض الوضوء، فقيل لأبي يوسف أتصلي خلفه فقال : سبحان الله أمير المؤمنين، فإن ترك الصلاة خلف الأئمة، لمثل ذلك من شعائر أهل البدع، كالرافضة والمعتزلة، ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا، فأفتى بوجوب الوضوء، فقال له السائل : فإن كان الإمام لايتوضأ أصلي خلفه فقال سبحان الله : ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك بن أنس .

ومالك يرى أن كلام الناسي والجاهل في الصلاة لا يبطلها، على حديث ذي اليدين وحديث معاوية بن الحكم لما شمت العاطس، وحديث الأعرابي الذي قال : في الصلاة اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا احدًا، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الرواتين، والراوية الأخرى كقول أبي حنيفة قالوا حديث ذي اليدين، كان قبل تحريم الكلام، وليس كذلك بالحديث ذي اليدين كان بعد خيبر إذ قد شهده أبو هريرة وإنما أسلم أبوهريرة عام خيبر، وتحريم الكلام كان قبل رجوع ابن مسعود من الحبشة، وابن مسعود شهد بدرًا ومذهب أهل المدينة في الدعاء في الصلاة والتنبيه بالقرآن والتسبيح وغير ذلك فيه من التوسع ما يوافق السنة، بخلاف الكوفيين، فإنهم ضيقوا في هذا الباب تضيقًا كثيرًا وجعلوا ذلك كله من الكلام المنهي عنه .

ومن ذلك في الطهارة أن مالكًا رأى الوضوء من مس الذكر، ولمس النساء لشهوة، دون القهقهة في الصلاة، ولمس النساء لغير شهوة، ودون الخارج النادر من السبيلين، والخارج النجس من غيرهما، وأبو حنيفة رآها من القهقهة، والخارج النجس من السبيلين مطلقًا، ولا يراها من مس الذكر، ومعلوم أن أحاديث نقض الوضوء من مس الذكر أثبت وأعرف من أحاديث القهقهة، فإنه لم يرو أحد منها في السنن شيئًا، وهى مراسيل ضعيفة عند أهل الحديث، ولهذا لم يذهب إلى وجوب الوضوء من القهقهة أحد من علماء الحديث، لعلمهم بأنه لم يثبت فيها شيء، والوضوء من مس الذكر فيه طريقان منهم، من يجعله تعبدًا لا يعقل معناه فلا يكون بعيدًا عن الأصول، كالوضوء من القهقهة في الصلاة ومنهم من لا يجعله تعبدًا فهو حينئذ أظهر وأقوى، وأما لمس النساء ففيه ثلاثة أقوال مشهورة قول أبي حنيفة لا وضوء منه بحال، وقول مالك وأهل المدينة وهو المشهور عن أحمد أنه إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإلا فلا وقول الشافعي يتوضأ منه بكل حال، ولا ريب أن قول أبي حنيفة، وقول مالك هما القولان المشهوران في السلف، وأما إيجاب الوضوء من لمس النساء بغير شهوة، فقول شاذ ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولا في أثر عن أحد من سلف الأمة، ولا هو موافق لأصل الشريعة، فإن اللمس العاري عن شهوة لا يؤثر لا في الإحرام، ولا في الإعتكاف، كما يؤثر فيهما اللمس مع الشهوة ولا يكره لصائم، ولا يوجب مصاهرة، ولا يؤثر في شيء من العبادات وغيرها من الأحكام فمن جعله مفسدًا للطهارة فقد خالف الأصول، وقوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [ المائدة 6 ] . إن أريد به الجماع فقط، كما قاله عمر وغيره فمعلوم أن قوله أو لامستم في الوضوء، كقوله في الإعتكاف { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [ البقرة 187 ] . والمباشرة بغير شهوة لا تؤثر هناك فكذلك هنا، وكذلك قوله { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } هذا مع نعلم أنه مازال

الرجال يمسون النساء بغير شهوة، فلو كان الوضوء من ذلك واجبًا لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، ولكان ذلك مما ينقل ويؤثر .

وهذا كما أنه احتج من احتج على مالك في مسألة المني، أن الناس لا يزالون يحتلمون في المنام، فتصيب الجنابة أبدانهم وثيابهم، فلو كان الغسل واجبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم، يأمر به مع أنه لم يأمر أحدًا من المسلمين بغسل ما أصابه من مني لا في بدنه ولا في ثيابه، وقد أمر الحائض أن تغسل دم الحيض، من ثوبها ومعلوم أن إصابة الجنابة ثياب الناس، أكثر من إصابة دم الحيض ثياب النساء، فكيف يبين هذا للحائض ويترك بيان ذلك الحكم العام، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وما ثبت عنه في الصحيح من أن عائشة، كانت تغسل المني من ثوبه لا يدل على الوجوب، وثبت عنها أيضًا في الصحيح أنها كانت تفركه، فكيف وقد ثبت هذا أيضًا أن الغسل يكون لقذارته، كما قال سعد بن أبي وقاص وابن عباس أمطه عنك، ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، فإن كانت هذه الحجة مستقيمة فمثلها يقال في الوضوء من لمس النساء لغير شهوة، ولمسهن لشهوة في التوضي منه اجتهاد وتنازع قديم، وأما لمسهن بغير شهوة فكما ترى، وكذلك الاغتسال من الجنابة فمذهب مالك وأحد القولين من مذهب أحمد، بل هو المأثور عنه أتباع السنة فيه، فإن من نقل غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كعائشة وميمونة لم ينقل أنه غسل بدنه كله ثلاثًا، بل ذكر أنه بعد الوضوء وتخليل أصول الشعر حثاثية على شق رأسه وأنه أفاض الماء، بعد ذلك على سائر بدنه، والذين استحبوا الثلاث إنما ذكروه قياسًا على الوضوء والسنة، قد فرقت بينهما، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وهو أربعة أمداد ومعلوم أنه لو كان السنة في الغسل التثليث، لم يكفه ذلك، فإن سائر الأعضاء فوق أعضاء الوضوء أكثر من أربع مرات .

ومن ذلك التيمم منهم من يقول لا يجب أن يتيمم لكل صلاة، كقول أبي حنيفه ومنهم من يقول بل يتيمم لكل صلاة كقول الشافعي ومذهب مالك يتيمم لوقت كل صلاة وهذا أعدل الأقوال، وهو يشبه الآثار المأثورة عن الصحابة والمأثورة في المستحاضة، ولهذا كان ذلك هو المشهور فيهما عند فقهاء الحديث .

ومن ذلك أهل المدينة يوجبون الزكاة في مال الخليطين، كمال المالك الواحد ويجعلون في الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وهذا موافق لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة الذي أخرجه البخاري من حديث أبي بكر الصديق، وعامة كتب النبي صلى الله عليه وسلم كالتي كانت عند آل عمر ابن الخطاب وآل علي بن أبي طالب وغيرهما، توافق هذا ومن خالفهم من الكوفيين يستأنف الفريضة بعد ذلك، ولا يحصل للخلطة تأثير، ومعهم آثار الاستئناف، لكن لا تقاوم هذا، وإن كان ثابتًا فهو منسوخ كما نسخ ما روي في البقر أنها تزكى بالغنم، ومذهب أهل المدينة، أن لا وقص إلا في الماشية ففي النقدين ما زاد فبحسبه، كما روي ذلك في الآثار وأبو حنيفة يجعل الوقص تابعًا للنصاب ففي النقدين عنده لا زكاة في الوقص كما في الماشية، وأما المعشرات فعنده لا وقص فيها ولا نصاب، بل يجب العشر في كل قليل وكثير في الخضراوات، لكن صاحباه وافقا أهل المدينة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ليس فيما دون خمس أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة ) وبما ثبت عنه من ترك أخذ الصدقة من الخضراوات مع ما روي عنه ليس في الخضراوات صدقة، ومذهب أهل المدينة أن الركاز الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم، ( وفى الركاز الخمس ) لا يدخل المعدن، بل المعدن تجب فيه الزكاة، كما أخذت من معادن بلال بن الحارث، كما ذكر ذلك مالك في موطأه، فإن الموطأ لمن تدبره وتدبر تراجمه وما فيه من الاثار وترتيبه، علم قول من خالفها من أهل العراق، فقصد بذلك الترتيب والآثار بيان السنة، والرد على من خالفها، ومن كان بمذهب أهل المدينة والعراق أعلم كان أعلم بمقدار الموطأ، ولهذا كان يقول [ كتاب جمعته في كذا وكذا سنة تأخذونه في كذا وكذا يومًا كيف تفقهون ما فيه ] . أو كلامًا يشبه هذا .

ومن خالف ذلك من أهل العراق يجعلون الركاز إسمًا يتناول المعادن، ودفن الجاهلية، وكذلك أمور المناسك، فإن أهل المدينة لا يرون للقارن أن يطوف إلا طوافًا واحدًا ولا يسعى إلا سعيًا واحدًا، ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها توافق هذا القول، ومن صار من الكوفيين إلى أن يطوف أولًا ثم يسعى للعمرة، ثم يطوف ثانيًا، ويسعى للحج فمتمسك بآثار منقولة عن علي وابن مسعود، وهذا إن صح لا يعارض السنة الصحيحة، فإن قيل فأبوحنيفة يرى القران، أفضل ومالك يرى الإفراد أفضل، وعلماء الحديث لا يرتابون أن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان قارنًا كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، قيل هذه المسائل كثر نزاع الناس فيها واضطرب عليهم ما نقل فيها وما من طائفة إلا وقد قالت فيها قولًا مرجوحًا والتحقيق الثابت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج بأصحابه، أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي فلما لم يحلل توقفوا فقال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين العمرة والحج، فالذي تدل عليه السنة، أن من لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، وأن من ساق الهدي فالقران أفضل له، هذا إذا جمع بينهما في سفرة واحدة، وأما إذا سافر للحج سفرة، وللعمرة سفرة، فالإفراد أفضل له، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة .

اتفقوا على أن الإفراد أفضل إذا سافر كل منهما سفرة، والقران الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بطواف واحد وبسعي واحد، لم يقرن بطوافين وسعيين، كما يظنه من يظنه من أصحاب أبي حنيفة كما أنه لم يفرد الحج كما يظنه من ظنه من أصحاب الشافعي ومالك ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد من أصحابة إلاعائشة لأجل عمرتها التي حاضت فيها، مع أنه قد صح أنه اعتمر أربع عمر إحداهن في حجة الوداع ولم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه كما ظنه بعض أصحاب أحمد ومذهبهم أن المحصر لاقضاء عليه، وهذا أصح من قول الكوفيين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صدوا عن العمرة الحديبية، ثم من العام القابل، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، وطائفة ممن معه لم يعتمروا، وجميع أهل الحديبية، كانوا أكثر من ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، ومنهم من مات قبل عمرة القضية، ومذهبهم أنه لا يستحب لأحد بل يكره أن يحرم قبل الميقات المكاني، والكوفيون يستحبون الإحرام قبله وقول أهل المدينة الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر قبل حجة الوداع عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وكلاهما أحرم فيهما من ذي الحليفة واعتمر عام حنين من الجعرانة، ثم حجة الوداع وأحرم فيها من ذي الحليفة، ولم يحرم من المدينة قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليداوم على ترك الأفضل وخلفاؤه كعمر وعثمان، نهوا عن الإحرام قبل الميقات، وقد سئل مالك عن رجل أحرم قبل الميقات، فقال : [ أخاف عليه من الفتنة فقال : قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [ النور 63 ] .

فقال السائل : وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة امتثال في طاعة الله تعالى قال وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بفعل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ] . أو كما قال، وكان يقول [ لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد بجدل هذا ] .

ومذهب أهل المدينة أن وطىء بعد التعريف قبل التحلل فسد حجه، ومن وطىء بعد التحلل الأول فعليه عمرة، وهذا هو المأثور عن الصحابة، دون قول من قال أن الوطء بعد التعريف لا يفسد، وقول من قال أن الوطء بعد التحلل الأول لا يوجب إحرامًا ثانيًا، واتبع مالك في ذلك قول ابن عباس، وذكره في موطأه، لكن لم يسم من نقله فيه عن ابن عباس إذ الراوي له عكرمة لما بلغه

فيه عن ابن عمر، وسعد وإن كان الذي أتمه توثيق عكرمة ولهذا روى له البخاري، فإن قيل قد خالف حديث ضباعة بنت الزبير في اشتراطها التحلل، إذا حبسها حابس، وحديث عائشة في تطييب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه، وقبل طوافه بالبيت، وحديث ابن عباس في أنه مازال يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وغير ذلك قيل إذا قيس هذا بما خالفه غيره من الكوفيين ونحوه كان ذلك أكثر مع أنه في هذه المسائل اتبع فيها آثارًا عن عمر ابن الخطاب وابن عمر وغيرهما، وإن كان الصواب عند تنازع الصحابة، الرد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من لم تبلغه بعض السنة، فاتبع عمر وابن عمر، ونحوهما كان أرجح مما خفي عنه أكثر مما خفي عن أهل المدينة النبوية ولم يكن له سلف مثل سلف أهل المدينة .

ومن ذلك حرم المدينة النبوية، فإن الأحاديث قد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه باثبات حرمها، بل صح عنه أيضًا أنه جعل جزاء من عضد بها شجرًا، أن سلبه لواجده، ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد أنها حرام أيضًا وإن كان لهم في جزاء الصيد نزاع، ومن خالف في ذلك من الكوفيين لم تبلغه هذه السنن ولكن بعض اتباعهم أخذ يعارض، ذلك بمثل حديث أبي عمير وحديث الوحش وهذه لو كانت تقاوم ذلك في الصحة، لم يجز أن تعارض بها، لكن تلك متواترات، وحديث أبي عمير محمول على أن الصيد صيد خارج المدينة، ثم دخل إليها، وكذلك حديث الوحش، إن صح وإن قدر أنهما متعارضان، فكان مثل تحريم المدينة لأن أحاديث الحرم رواها أبو هريرة، ونحوه ممن صحبته متأخرة .

وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طلحة، فكان من أوائل الهجرة، أو أنه إذا تعارض نصان أحدهما ناقل عن الأصل، والآخر ناف مبق لحكم الأصل، كان الناقل أولى لأنه إذا قدم الناقل لم يلزم تعيين الحكم إلا مرة واحدة وإذا قدم المبقي تغير الحكم مرتين، فلو قيل أن حديث أبي عمير بعد أحاديث تحريم المدينة لكان قد حرمه ثم أحله وإذا قدر أنه كان قبل ذلك، لم يلزم إلا كونه قد حرمه بعد التحليل، وهذا لا ريب فيه .

والله أعلم .

فصل

وأما المناكح فلا ريب أن مذهب أهل المدينة ـ في بطلان نكاح المحلل ونكاح الشغار ـ أتبع للسنة ممن لم يبطل ذلك من أهل العراق، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( لعن المحلل والمحلل له ) ، وثبت عن أصحابه كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس : أنهم نهوا عن التحليل؛ لم يعرف عن أحد منهم الرخصة في ذلك وهذا موافق لأصول أهل المدينة . فإن من أصولهم أن القصود في العقود معتبرة، كما يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن، ويجعلون الشرط العرفي كالشرط اللفظي .

ولأجل هذه الأصول أبطلوا نكاح المحلل، وخلع اليمين الذي يفعل حيلة لفعل المحلوف عليه، وأبطلوا الحيل التي يستحل بها الربا وأمثال ذلك . ومن نازعهم في ذلك من الكوفيين؛ ومن وافقهم ألغى النيات في هذه الأعمال، وجعل القصد الحسن كالقصد السيئ، وسوغ إظهار أعمال لا حقيقة لها ولا قصد بل هي نوع من النفاق والمكر . كما قال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون عليهم .

والبخاري قد أورد في صحيحه كتابا في الرد على أهل الحيل، وما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون على من فعل ذلك كما بسطناه في الكتاب المفرد .

ونكاح الشغار قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه النهي عنه، ولكن من صححه من الكوفيين رأى أنه لا محذور فيه إلا عدم إعلام المهر ـ والنكاح يصح بدون تسمية المهر ـ ولهذا كان المبطلون له لهم مأخذان :

أحدهما : أن مأخذه جعل بضع كل واحدة مهر الأخرى فيلزم التشريك في البضع . كما يقول ذلك الشافعي وكثير من أصحاب أحمد . وهؤلاء منهم طائفة يبطلونه إلا أن يسمي مهرا ; لأنه مع تسميته انتفى التشريك في البضع . ومنهم من لا يبطله إلا بقول : وبضع كل واحدة مهر للأخرى ; لكونه إذا لم يقل ذلك لم يتعين جعل البضع مهرا . ومنهم من يبطله مطلقا كما جاء عنه بذلك حديث مصرح به في السنن وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره .

والمأخذ الثاني : أن بطلانه لاشتراط عدم المهر . وفرق بين السكوت عن تسمية المهر وبين اشتراط المهر ; فإن هذا النكاح من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا فلو سمى المهر بما يعلمان تحريمه كخمر وخنزير بطل النكاح؛ كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو أشبه بظاهر القرآن وأشبه بقياس الأصول .

وكذلك نكاح الحامل أو المعتدة من الزنا باطل في مذهب . وهو أشبه بالآثار والقياس لئلا يختلط الماء الحلال بالحرام، وقد خالفه أبو حنيفة

فجوز العقد دون الوطء، والشافعي جوزهما، وأحمد وافقه وزاد عليه فلم

يجوز نكاح الزانية حتى تتوب لدلالة القرآن والأحاديث على تحريم نكاح

الزانية . وأما من ادعى أن ذلك منسوخ وأن المراد به الوطء ففساد قوله

ظاهر من وجوه متعددة .

وكذلك مسألة تداخل العدتين من رجلين؛ كالتى تزوجت في عدتها؛ أوالتى وطئت بشبهة، فان مذهب مالك أن العدتين لا يتداخلان بل تعتد لكل واحد منهما، وهذا هو المأثور عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال بتداخلهما .

وكذلك مسألة إصابة الزوج الثاني؛ هل تهدم ما دون الثلاث ؟ وهو الذي يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ثم تتزوج من يصيبها ثم تعود إلى الأول، فإنها تعود على ما بقي عند مالك، وهو قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله، وهو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإنما مالك قال : لا تعود على ما بقي من ابن عمر وابن عباس وهو قول أبي حنيفة .

وكذلك في الإيلاء مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وغيرهم أنه عند انقضاء أربعة أشهر يوقف إما أن يفي؛ وإما أن يطلق . وهذا هو المأثور عن بضعة عشر من الصحابة، وقد دل عليه القرآن والأصول من غير وجه، وقول الكوفيين أن عزم الطلاق انقضاء العدة فاذا انقضت ولم يف طلقت . وغاية ما يروى ذلك عن ابن مسعود إن صح عنه .

ومسألة الرجعة بالفعل كما إذا طلقها فهل يكون الوطء رجعة ؟ فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : يكون رجعة كقول أبي حنيفة .

والثاني : لا يكون كقول الشافعي .

والثالث : يكون رجعة مع النية وهو المشهور عند مالك وهو أعدل الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد .

فصل

وأما العقوبات والأحكام فمذهب أهل المدينة أرجح من مذهب أهل الكوفة من وجوه :

أحدها : أنهم يوجبون القود في القتل بالمثقل كما جاءت بذلك السنة وكما تدل عليه الأصول . بل بالغ مالك حتى أنكر الخطأ شبه العمد، وخالفه غيره في ذلك لهجر الشبه، لكنه في الحقيقة نوع من الخطأ امتاز بمزيد حكم فليس هو قسما من الخطأ المذكور في القرآن .

ومن ذلك مسألة قتل المسلم بالكافر والذمي والحر بالعبد للناس فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يقتل به بكل حال ; كقول أبي حنيفة وأصحابه . والثاني : لا يقتل به بحال كقول الشافعي وأحمد في أحد القولين . والثالث : لا يقتل به إلا في المحاربة؛ فإن القتل فيها حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة بل يقتل فيه الحر وإن كان المقتول عبدا؛ والمسلم وإن كان المقتول ذميا . وهذا قول أهل المدينة والقول الآخر لأحمد وهو أعدل الأقوال وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب أيضا . ومذهب مالك في المحاربين وغيرهم إجراء الحكم على الردء والمباشر كما اتفق الناس على مثل ذلك في الجهاد . ومن نازعه في هذا سلم أن المشتركين في القتل يجب عليهم القود فإنه متفق عليه من مذهب الأئمة . كما قال عمر : ( لو تمالأ أهل صنعاء لقتلتهم به ) فإن كانوا كلهم مباشرين فلا نزاع وإن كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضي إلى القتل غالبا ـ كالمكره وشاهد الزور إذا رجع والحاكم الجائر إذا رجع ـ فقد سلم له الجمهور على أن القود يجب على هؤلاء . كما قال علي رضي الله عنه في الرجلين اللذين شهدا على رجل أنه سرق فقطع يده ثم رجعا وقالا : أخطأنا قال : ( لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ) فدل على قطع الأيدي باليد وعلى وجوب القود على شاهد الزور . والكوفيون يخالفون في هذين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل رقبة المحاربين بينهم ومعلوم أن قول من جعل المتعاونين على الإثم والعدوان مشتركين في العقوبة أشبه بالكتاب والسنة لفظا ومعنى ممن لم يوجب العقوبة إلا على نفس المباشر . ومن ذلك أهل المدينة يتبعون ما خطب به عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( الرجم في كتاب الله حق على كل من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) . كذلك يحدون في الخمر بما إذا وجد سكرانا أو تقيأ؛ أو وجدت منه الرائحة ولم يكن هناك شبهة وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كعمر وعثمان وعلي . وأبو حنيفة والشافعي لا يرون الحد إلا بإقرار أو بينة على الفعل وزعموا أن ذلك شبهة وعن أحمد روايتان . ومعلوم أن الأول أشبه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وهو حفظ لحدود الله تعالى التي أمر الله بحفظها والشبهة في هذا كالشبهة في البينة والإقرار الذي يحتمل الكذب والخطأ .

ومن ذلك أن أهل المدينة يرون [ العقوبات المالية ] مشروعة حيث مضت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين كما أن العقوبات البدنية مشروعة حيث مضت بها السنة، وقد أنكر العقوبات المالية من أنكرها من أهل الكوفة ومن اتبعهم وادعوا أنها منسوخة، ومن أين يأتون على نسخها بحجة ؟ وهذا يفعلونه كثيرا إذا رأوا حديثا صحيحا يخالف قولهم . وأما علماء أهل المدينة وعلماء الحديث فرأوا السنن والآثار قد جاءت بالعقوبات المالية كما جاءت بالعقوبات البدنية : مثل كسر دنان الخمر؛ وشق ظروفها؛ وتحريق حانوت الخمار . كما صنع موسى بالعجل، وصنع النبي صلى الله عليه وسلم بالأصنام، وكما أمر عليه السلام عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين، وكما أمرهم عليه السلام بكسر القدور التي فيها لحم الحمر ثم أذن لهم في غسلها، وكما ضعف القود على من سرق من غير الحرز، وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب غرم الضالة المكتومة وضعف ثمن دية الذمي المقتول عمدا .

وكذلك مذهبهم في [ العقود والديات ] من أصح المذاهب فمن ذلك دية الذمي فمن الناس من قال : ديته كدية المسلم؛ كقول أبي حنيفة . ومنهم من قال : ديته ثلث دية المسلم؛ لأنه أقل ما قيل؛ كما قاله الشافعي . والقول الثالث : أن ديته نصف دية المسلم وهذا مذهب مالك وهو أصح الأقوال؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أهل السنن : أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن ذلك العاقلة تحمل جميع الدية كما يقول الشافعي؛ أو تحمل المقدرات كدية الموضحة والأصابع فما فوقها كما يقوله أبو حنيفة؛ أو تحمل ما زاد على الثلث وهو مذهب مالك وهذا الثالث هو المأثور وهو مذهب أحمد، وفي الثلث قولان في مذهب مالك وأحمد .

ويذكر أنه تناظر مدني وكوفي فقال المدني للكوفي : قد بورك لكم في الربع كما تقول : يمسح ربع الرأس، ويعفى عن النجاسة المخففة عن ربع المحل، وكما تقولونه في غير ذلك . فقال له الكوفي : وأنتم بورك لكم في الثلث كما تقولون : إذا نذر صدقة ماله أجزأه الثلث، وكما تقولون : العاقلة تحمل ما فوق الثلث، وعقل المرأة كعقل الرجل إلى الثلث فإذا زادت كانت على النصف وأمثال ذلك .

وهذا صحيح؛ ولكن يقال للكوفي : ليس في الربع أصل لا في كتاب الله ولا سنة رسوله . وإنما قالوا : الإنسان له أربع جوانب ويقال : رأيت الإنسان إذا رأيت أحد جوانبه وهي أربعة فيقام الربع مقام الجميع . وأما الثلث فله أصل في غير موضع من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق المسلمين أن المريض له أن يوصي بثلث ماله لا أكثر؛ كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لما عاده في حجة الوداع؛ وكما ثبت في الصحيح في الذي أعتق ستة مملوكين له عند موته فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة؛ وكما روي أنه قال لأبي لبابة : ( يجزيك الثلث ) وكما في غير ذلك فأين هذا من هذا ؟ وما في هذا الحديث يقول به أهل المدينة .

والقرعة فيها آية من كتاب الله وستة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها هذا الحديث . ومنها قوله : ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ولم يجدوا إلا أن يستهموا عليه ) ، ومنها : ( إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ) ، ومنها : أن الأنصار كانوا يستهمون على المهاجرين لما هاجروا إليهم، ومنها في المتداعيين اللذين أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين حبا أم كرها، ومنها : في اللذين اختصما في مواريث درست فقال لهما : ( توخيا الحق واستهما وليحلل كل منكما صاحبه ) . والقرعة يقول بها أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد وغيرهما، ومن خالفهم من الكوفيين لا يقول بها؛ بل نقل عن بعضهم أنه قال : القرعة قمار وجعلوها من الميسر .

والفرق بين القرعة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الميسر الذي حرمه ظاهر بين؛ فإن القرعة إنما تكون مع استواء الحقوق وعدم إمكان تعيين واحد وعلى نوعين : أحدهما : أن لا يكون المستحق معينا كالمشتركين إذا عدم المقسوم فيعين لكل واحد بالقرعة، وكالعبيد الذين جزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، وكالنساء اللاتي يريد السفر بواحدة منهن فهذا لا نزاع بين القائلين بالقرعة أنه يقرع فيه . والثاني : ما يكون المعين مستحقا في الباطن كقصة يونس، والمتداعيين، وكالقرعة فيما إذا أعتق واحدا بعينه ثم أنسيه، وفيما إذا طلق امرأة من نسائه ثم أنسيها أو مات : أو نحو ذلك . فهذه القرعة فيها نزاع وأحمد يجوز ذلك دون الشافعي .

فصل

ومذهبهم في الأحكام أنهم يرجحون جانب أقوى المتداعيين ويجعلون

اليمين في جانبه فيقضون بالشاهد ويمين الطالب في الحقوق وفي

القسامة يبدأون بتحليف المدعين فان حلفوا خمسين يمينا استحقوا الدم،

والكوفيون يرون أنه لا يحلف الا المدعى عليه فلا يحلفون المدعى لا في قسامة ولا في غيرها ولا يقضون بشاهد ويمين ولا يرون اليمين على المدعى .

ومعلوم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة توافق مذهب

المدنيين، فإن حديث القسامة صحيح ثابت فيه وقد قال النبي صلى الله

عليه وسلم للأنصار : ( تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ) . وكان الشافعي ونحوه من أهل العراق إذا ناظروا علماء أهل المدينة ـ كأبي الزناد وغيره ـ في القسامة واحتج عليهما أهل المدينة بالسنة التي لا مندوحة لأحد عن قبولها ويقولون لهم أن السنة ووجوه الحق لتأتى على خلاف الرأي، فلا يجد المسلمون بدا من قبولها في كلام طويل مروي بإسناد .

وكذلك مسألة الحكم بشاهد ويمين فيها أحاديث في الصحيح والسنن كحديث ابن عباس الذي رواه مسلم، وكحديث أبي هريرة وغيره مما رواه أبو داود لما قال بعض العلماء نرى أن من حكم بشاهد ويمين نقض حكمه . انتصر لهذه السنة العلماء كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم . فمالك بحث فيها في موطأه بحثا لا يعد له نظير في الموطأ، والشافعي في الأم بحث فيها نحو عشر أوراق، وكذلك أبو عبيد في كتاب القضاء .

وليس مع الكوفيين إلا ما يروونه من قوله : ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ) وهذا اللفظ ليس في السنن وإن كان قد رواه بعض المصنفين في الأحاديث، ولكن في الصحيح حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) .

وهذا اللفظ إما أن يقال لا عموم فيه؛ بل اللام لتعريف المعهود وهو المدعى عليه؛ اذ ليس مع المدعي إلا مجرد الدعوى كما قال ( لو يعطى الناس بدعواهم . . ) ومن يحلف المدعي لا يحلفه مع مجرد الدعوى بل إنما يحلفه اذا قامت حجة يرجح بها جانبه كالشاهد في الحقوق، والإرث في القسامة .

إن قيل هو عام فالخاص يقضى على العام، واحتجاجهم بما في القرآن من ذكر الشاهدين والرجل والمرأتين ضعيف جدا، فإن هذا إنما هو مذكور في تحمل الشهادة دون الحكم بها، ولو كان في الحكم فالحكم بالشهادة المجردة لم يفتقر إلى ذلك، ومن حلف مع الشاهد لم يحكم بشهادة غير الشهادة المذكورة في القرآن، ثم الائمة متفقون على أنه يحكم بلا شهادة أصلا بل بالنكول أو الرد وأنه يحكم بشهادة النساء منفردات في مواضع فكيف يحكم مع أن هذا ليس بمخالف للقرآن ؟ فكيف باليمين مع الشاهد ؟ ثم مالك يوجب القود في القسامة ويقيم الحد على المرأة اذا التعن الرجل ولم تلتعن المرأة، والشافعي يقيم الحد ولا يقتل من القسامة، وأبو حنيفة يخالف في المسألتين، وأحمد يوافق على القود بالقسامة دون حد المرأة بل يحسبها اذا لم تلتعن ويخليها . وظاهر الكتاب والسنة يوافق قول مالك، ومن ذلك أهل المدينة يرون قتل اللوطي الفاعل والمفعول به محصنين كانا أو غير محصنين، وهذا هو الذي دلت عليه السنة واتفاق الصحابة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، ومن قال لا قتل عليه من الكوفيين فلا سنة معه ولا أثر عن الصحابة .

وقد قال ربيعة للكوفي الذي ناظره : أيجعل مالا يحل بحال كما يباح بحال دون حال ؟ وذكر الزهري : أن السنة مضت بذلك . ومن ذلك أن الدعوى في التهم كالسرقة والقتل يراعون فيها حال المتهم هل هو من أهل التهم ام ليس من أهل ذلك، ويرون عقوبة من ظهرت التهمة في حقه . وقد ذكر ذلك من صنف في الأحكام السلطانية من أصحاب الشافعي وأحمد، ذكروا في عقوبة مثل هذا هل يعاقبه الوالي والقاضي ؟ أم يعاقبه الوالي ؟ قولان .

وكما يجب أن يعرف أن امر الله تعالى ورسوله متناول لكل من حكم بين الناس سواء كان واليا أو قاضيا أو غير ذلك فمن فرق بين هذا وهذا بما يتعلق بأمر الله ورسوله فقد غلط، وأما من فرق بينهما بما يتعلق بالولاية لكون هذا ولي على مثل ذلك دون هذا فهذا متوجه . وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفى تصانيفهم، اذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بقتله ـ كقتله اليهودى الذي رض رأس الجارية، وكإهداره لدم السابة التى سبته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي، ونحو ذلك ـ قالوا : هذا يعمله سياسة . فيقال لهم : هذه السياسة إن قتلهم هي مشروعة لنا، فهي حق، وهي سياسة شرعية . وإن قلتم : ليست مشروعة لنا، فهذه مخالفة للسنه .

ثم قول القائل بعد هذا سياسة إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الاسلام ؟ أم هذه السياسة من غير شريعة الاسلام ؟ فإن قيل بالأول فذلك من الدين، وإن قيل بالثاني فهو الخطأ . ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين . وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال : ( أن بني اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء يكثرون ) قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : ( أوفوا بيعة الأول

فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) .

فلما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال : الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة . فصارت أمور كثيرة اذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء؛ وتؤخذ الاموال؛ وتستباح المحرمات .

والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأى من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى؛ ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك .

وكذلك كانت الأمصار التى ظهر فيها مذهب أهل المدينة، يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها، من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب، مالا يكون في الأمصار التى ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم؛ حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم . وقد قال الله تعالى في كتابه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ . . . } الاية [ الحديد : 25 ] فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر، وكفى بربك هاديا ونصيرا .

ودين الاسلام أن يكون السيف تابعا للكتاب، فاذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الاسلام قائما، وأهل المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك . أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم .

وأما اذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك، وهذه الأمور من اهتدى إليها وإلى أمثالها تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق بما لا نسبة بينهما .

ومن ذلك أن القتال في الفتنة الكبرى كان الصحابة فيها ثلاث فرق فرقة قاتلت من هذه الناحية؛ وفرقة قاتلت من هذه الناحية؛ وفرقة قعدت . والفقهاء اليوم على قولين : منهم من يرى القتال من ناحية علي مثل أكثر المصنفين لقتال البغاة، ومنهم من يرى الإمساك وهو المشهور من قول أهل المدينة وأهل الحديث . والأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هذه الفتنة توافق قول هؤلاء، ولهذا كان المصنفون

لعقائد أهل السنة والجماعة يذكرون فيه ترك القتال في الفتنة؛ والإمساك

عما شجر بين الصحابة .

ثم إن أهل المدينة يرون قتال من خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم، ويفرقون بين هذا وبين القتال في الفتنة وهو مذهب فقهاء الحديث، وهذا هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإنه قد ثبت عنه الحديث في الخوارج من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه وخرج البخاري بعضها وقال فيه : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم؛ وصيامه مع صيامه؛ وقراءته مع قراءتهم،

يقرأون القران لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن

قتلهم يوم القيامة ) .

وقد ثبت اتفاق الصحابة على قتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر فيهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم وسجد له شكرا لما رأى أباهم مقتولا وهو ذو الثدية . بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين فإن عليا لم يفرح بذلك بل ظهر منه من التألم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ بل ذكر أنه قاتل باجتهاده .

فأهل المدينة اتبعوا في قتال المارقين من الشريعة وترك القتال في الفتنة، وعلى ذلك ائمة أهل الحديث، بخلاف من سوى بين قتال هؤلاء وهؤلاء؛ بل سوى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لمانعي الزكاة؛ فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة، كما فعل ذلك من فعله من المصنفين في قتال

أهل البغي فإن هذا جمع بين ما فرق الله بينهما، وأهل المدينة والسنة

فرقوا بين ما فرق الله بينه واتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم

العادل . فإن القياس الصحيح من العدل وهو التسوية بين المتماثلين

والتفريق بين المتخالفين .

وأهل المدينة أحق الناس باتباع النص الصحيح والقياس العادل، وهذا باب يطول استقصاؤه وقد ذكرنا من ذلك ما شاء الله من القواعد الكبار في القواعد الفقهية وغير ذلك، وإنما هذا جواب فتيا نبهنا فيه تنبيها على جمل يعرف بها بعض فضائل أهل المدينة النبوية، فإن معرفة هذا من الدين لاسيما إذا جهل الناس مقدار علمهم ودينهم، فبيان هذا يشبه بيان علم الصحابة ودينهم إذا جهل ذلك من جهله . فكما أن بيان السنة وفضائل الصحابة وتقديمهم الصديق والفاروق من أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الرافضة ونحوهم، فكذلك بيان السنة ومذاهب أهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب أهل الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال المتعبين للظن وما تهوى الأنفس والله أعلم .

والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه، والحمد لله

رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

النسيم
مجموع فتاوى ابن تيمية
المجلد العشـــرون
( 392 من 645 )

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله

عن [ صحة أصول مذهب أهل المدينة ] ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة، وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار ؟

فأجاب رضي الله عنه : الحمد لله، مذهب أهل المدينة النبوية - دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة إذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الإسلام وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله وبها كان الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم - مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا، في الأصول والفروع . وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه : ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه وقد روي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة . وقد جزم بذلك ابن حبان البستي ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح . أما أحاديث الثلاثة ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ) . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( سأل رجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أي الناس خير ؟ قال : القرن الذي بعثت فيهم، ثم الثاني، ثم الثالث ) .

وأما الشك في الرابع، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا : ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن . وفي لفظ : خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم الحديث وقال فيه : ويحلفون ولا يستحلفون ) .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم - والله أعلم : أذكر الثالث أم لا ؟ - ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا ) . وقوله في هذه الأحاديث : " يشهدون قبل أن يستشهدوا " قد فهم منه طائفة من العلماء أن المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له وحملوا ذلك على ما إذا كان عالما، جمعا بين هذا وبين قوله : ( ألا أنبئكم بخير الشهداء : الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وحملوا الثاني على أن يأتي بها المشهود له فيعرفه بها . والصحيح أن الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء في بعض ألفاظ الحديث ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد، ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء بالنذر وهذه الخصال الثلاثة هي آية المنافق كما ثبت في الحديث المتفق عليه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي لفظ لمسلم : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) فذمهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يفشو فيهم من خصال النفاق وبين أنهم يسارعون إلى الكذب حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك، فإنه شر ممن لا يكذب حتى يسأل أن يكذب . وأما ما فيه ذكر القرن الرابع فمثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال : هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم . فيفتح لهم ولفظ البخاري : ثم يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس ) ولذلك : قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الثانية والثالثة وقال فيها كلها : صحب ولم يقل رأى .

ولمسلم من رواية أخرى : ( يأتي على الناس زمان يبعث فيهم البعث فيقولون : انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني فيقولون : هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيقولون : نعم فيفتح لهم ثم يبعث البعث الثالث فيقولون : انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال : انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ) .

وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين : على أن صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من رآه مؤمنا به وإن قلت صحبته، كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره . وقال مالك : من صحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك . وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال : صحبه شهرا، وساعة . وقد بين في هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به، فإنه لا بد من هذا .

وفي الطريق الثاني لمسلم ذكر أربعة قرون ومن أثبت هذه الزيادة قال : هذه من ثقة . وترك ذكرها في بقية الأحاديث لا ينفي وجودها كما أنه لما شك في حديث أبي هريرة أذكر الثالث ؟ لم يقدح في سائر الأحاديث الصحيحة التي ثبت فيها القرن الثالث . ومن أنكرها قال في حديث ابن مسعود الصحيح : أخبر أنه بعد القرون الثلاثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته فيكون ما بعد الثلاثة ذكر بذم . وقد يقال : لا منافاة بين الخبرين، فإنه قد يظهر الكذب في القرن الرابع . ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية .

ومع هذا فيكون فيه من يفتح به لاتصال الرؤية، وفى القرون التي أثنى عليها رسول

الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، حتى إنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد، أكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله، بما كان عندهم من الأثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام ولا العراق ولا غير ذلك من أمصار المسلمين .

ومن حكى عن أبي حنيفة، أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم، فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك، وأما المدينة فقد تكلم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أن إجماع أهلها حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك والكلام، إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لاسيما من حين ظهر فيها الرفض، فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة، أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان، وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم لا سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية، وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وبذل لهم أموالاً كثيرة، فكثرت البدعة فيها من حينئذ، فأما الأعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار، فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج منها العلم والإيمان خمسة : الحرمان، والعراقان، والشام، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة، وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية .

فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها .

والبصرة خرج منها القدر، والاعتزال، والنسك الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها . والشام كان بها النصب والقدر .

وأما التجهم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع .

وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وتقدم بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية، حيث حرقهم علي بالنار، والمفضلة حيث تقدم بجلدهم ثمانين، والسبائية حيث توعدهم وطلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه .

ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس؛ وجابر؛ وأمثالهم من الصحابة . وحدثت المرجئة قريباً من ذلك .

وأما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين، بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك، وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك، ضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال : [ يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً ] ، ثم نزل فذبحه .

وقد روي أن ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك .

وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك، فكان عندهم مهاناً مذموماً؛ إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مذمومين مقهورين بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهراً . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ( إن الدجال لا يدخلها ) وفي الحكاية المعروفة أن عمرو بن عبيد، وهو رأس المعتزلة مر بمن كان يناجي سفيان الثوري، ولم يعلم أنه سفيان، فقال عمرو لذلك الرجل : من هذا ؟ فقال : هذا سفيان الثوري أو قال : من أهل الكوفة، قال : لو علمت بذلك لدعوته إلى رأيي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق .

ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهراً إلى زمن أصحاب مالك، وهم أهل القرن الرابع؛ حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته كالثوري؛ والأوزاعي؛ والليث بن سعد؛ وحماد بن زيد؛ وحماد بن سلمة؛ وسفيان بن عيينة؛ وأمثالهم . وهؤلاء أخذوا عن طوائف من التابعين، وأولئك أخذوا عمن أدركوا من الصحابة .

والكلام في إجماع أهل المدينة في تلك الأعصار، والتحقيق في [ مسألة إجماع أهل المدينة ] ، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين؛ ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين؛ ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم . وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب .

[ الأولى ] : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء . أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك . وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه .

قال أبو يوسف رحمه الله، وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال : لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت .

فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة، كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه، ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه .

وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما؛ لعلمهما بأن شيخهما كان يقول : أن هذه الأحاديث أيضاً حجة إن صحت لكن لم تبلغه .

ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس؛ لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما .

وقد بينا هذا في رسالة [ رفع الملام عن الأئمة الأعلام ] ، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر؛ بل لهم نحو من عشرين عذراً، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث؛ أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم؛ أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ؛ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك . والأعذار يكون العالم في بعضها مصيباً، فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئاً بعد اجتهاده فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له ; : لقوله تعالى { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة 286 ] . وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال : ( قد فعلت ) ولأن العلماء ورثة الأنبياء .

وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية وأنه فهمها أحدهما؛ ولم يعب الآخر؛ بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكما وعلما فقال : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء 78 ] { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء 79 ] . وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء : مسألة نفش الدواب في الحرث بالليل وهو مضمون عند جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد . وأبو حنيفة لم يجعله مضموناً .

والثاني : ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما . والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل، إذا أمكن كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة، كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .

والمقصود هنا : أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل، حجة باتفاق المسلمين، كما قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون ؟ قال : لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق . فقال : رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .

وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال : هذه مباقيل أهل المدينة، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني : وهي تنبت فيها الخضراوات .

وسأله عن الأحباس فقال : هذا حبس فلان وهذا حبس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما : قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .

وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة، كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء .

وإنما قال مالك : أرطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية، وجاءت دولة ولد العباس قريباً؛ فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق، ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال : نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس؛ أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم .

ويقال : أنه قال لمالك : أنت أعلم أهل الحجاز؛ أو كما قال . فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة؛ ومحمد بن إسحاق؛ ويحيى بن سعيد الأنصاري؛ وربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون وغير هؤلاء .

وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء، ويتعلم منهم الحديث، وأكثر عمن قدم من الحجاز؛ ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة : أبو يوسف أعلمهم بالحديث؛ وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعاً، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب؛ وربما قيل أكثرهم تفريعاً، فلما صارت العراق دار الملك، واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة، غيّر المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالاً : مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم . فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين .

المرتبة الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى : [ إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبًا أنه الحق ] وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها، وقال أحمد كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة، ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها، وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة، وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ) .

وفى السنن من حديث سفينة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يصير ملكاً عضوضاً ) . فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدون مخالف لسنة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

والمرتبة الثالثة : إذا تعارض في مسألة دليلان، كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة، ففيه نزاع فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة ولأصحاب أحمد وجهان :

أحدهما : وهو قول القاضي أبي يعلى، وابن عقيل أنه لا يرجح .

والثاني : وهو قول أبي الخطاب، وغيره أنه يرجح به قيل هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال : إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريراً كثيراً، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث، ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقه المدنيين حلقه أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين، وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة، كما يرد على أهل الرأي، ويقول إنهم اتبعوا الآثار، فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة .

وأما المرتبة الرابعة : فهي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا ؟

فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه [ أصول الفقه ] وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد، قلت : ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر، ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص، لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع، وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطأه فامتنع من ذلك، وقال : [ إن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي ] أو كما قال وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحاً للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة، إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم .

وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم . وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومثل أبي بن كعب ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وغيرهم .

وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك، يفتي بالفتيا ثم يأتي المدينة، فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله، فيرجع إليهم كما؛ جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول، حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة، وسأل عن ذلك، أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات، فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت، وكان أهل المدينة فيما يعملون، إما أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب ويقال : أن مالكاً أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب؛ وسعيد بن المسيب عن عمر؛ وعمر محدث .

وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . وكان عمر يشاور أكابر الصحابة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير؛ وسعد وعبد الرحمن؛ وهم أهل الشورى؛ ولهذا قال الشعبي انظروا ما قضى به عمر؛ فإنه كان يشاور . ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه؛ رضي الله عنهم أجمعين . وكان عمر في مسائل الدين والأصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث ؟ وأمثال ذلك .

فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل علي إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأمثالهم من هو أجل ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود وعلي كان بالمدينة، إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود، وهو نائب عمر وعثمان ومعلوم أن علياً مع هؤلاء أعظم علماً وفضلًا من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه، محتجاً على المناظر بقول علي وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب [ اختلاف علي وعبد الله ] يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما، وجاء بعده محمد بن نصر المروزي، فصنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي قال : إنكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما، وكذلك غيركم يترك ذلك لما هو راجح منه .

ومما يوضح الأمر في ذلك : أن سائر أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشام ومصر مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين .

وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأمثالهم . ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصارفإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب : وعبد الله بن الحكم .

والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، وأمثالهم، لهم روايات معروفة عن مالك . وأما أهل العراق كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة وإسماعيل ونحوه كانوا من أجل علماء الإسلام .

وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحدًا من أهل الكوفة أو غيرها يدعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعًا ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة .

ووجه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها وقوي أمر أهل العراق لحصول على فيها لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر .

ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة قال عبيدة السلماني قاضي على - رضي الله عنه - رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة . ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان ) .

وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه . ومما يوضح الأمر في ذلك أن العلم : إما رواية وإما رأي وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا .

وأما حديثهم فأصح الأحاديث وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة ثم أحاديث أهل البصرة .

وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء ولم يكن فيهم - يعني أهل المدينة، ومكة والبصرة، والشام - من يعرف بالكذب لكن منهم من يضبط ومنهم من لا يضبط .

وأما أهل الكوفة فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم معروفون بالكذب لا سيما الشيعة فإنهم أكثر الطوائف كذبا باتفاق أهل العلم؛ ولأجل هذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذابين ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب فأما إذا علموا صدق الحديث فإنهم يحتجون به كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي فقيل له [ في ] ذلك فقال : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا .

وهذا القول هو القول القديم للشافعي؛ حتى روي أنه قيل له : إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثا لا يحتج به فقال : أن لم يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا شك أن الشافعي رجع عن ذلك وقال لأحمد بن حنبل : أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه شاميًا كان أو بصريًا أو كوفيًا ولم يقل مكيًا أو مدنيًا؛ لأنه كان يحتج بهذا قبل .

وأما علماء أهل الحديث كشعبة ويحيى بن سعيد وأصحاب الصحيح والسنن فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم فيعلمون من بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي وشريح القاضي ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم فلهذا صار علماء أهل الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من المسلمين من أهل العلم بالسنة .

وأما الفقه والرأي فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين ولما حدث الكلام في الرأي في أوائل الدولة العباسية وفرع لهم ربيعة بن هرمز فروعًا كما فرع عثمان البستي وأمثاله بالبصرة وأبو حنيفة وأمثاله بالكوفة وصار في الناس من يقبل ذلك وفيهم من يرد وصار الرادون لذلك مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري وابن عيينة وأمثالهم، فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد ردًا، فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما لا يحمد وهم فوقهم فيما يحمدونه وبهذا يظهر الرجحان .

وأما ما قال هشام بن عروة : لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى فشا فيهم المولدون : أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا .

قال ابن عيينة : فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي إنما هو من المولدين أبناء سبايا الأمم وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة والذين بالمدينة أحمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة . ولما قال مالك - رضي الله عنه - عن إحدى الدولتين إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة الأخرى قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان؛ لأن أولئك أولى بالخلافة نسبًا وقرنًا .

وقد كان المنصور والمهدي والرشيد - وهم سادات خلفاء بني العباس - يرجحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء أهل الشام ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثرت الأحداث فيهم وضعفت الخلافة .

ثم أن بغداد إنما صار فيها من العلم والإيمان ما صار وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة بها وأظهر حقائق الإسلام مثل أحمد بن حنبل وأبي عبيد وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في الأصول والفروع وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الأمصار وانتشر أيضًا من ذلك الوقت في المشرق والمغرب، فصار في المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وأصحابه وأصحاب عبد الله بن المبارك وصار إلى المغرب، من علم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما لا يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة .

أما أحوال الحجاز فلم يكن بعد عصر مالك وأصحابه من علماء الحجاز من يفضل على علماء المشرق والعراق والمغرب .

وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام . إذا تبين ذلك، فلا ريب عند أحد أن مالكًا - رضي الله عنه - أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه كان له من المكانة عند أهل الإسلام - الخاص منهم والعام - ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفا وسبعمائة أو نحوها وهؤلاء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة سنة فكيف بمن انقطعت أخبارهم أو لم يتصل إليه خبرهم فإن الخطيب توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة وعصره وعصر ابن عبد البر، والبيهقي، والقاضي أبي يعلى، وأمثال هؤلاء واحد ومالك، توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وتوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين؛ ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله من موطأ مالك .

وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه . وهذا لا يعارض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم ومن رجح مسلمًا فإنه رجحه بجمعه ألفاظ أحاديث في مكان واحد فإن، ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث .

وأما من زعم أن الأحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم أصح من الأحاديث التي انفرد بها البخاري ومن الرجال الذين انفرد بهم، فهذا غلط لا يشك فيه عالم كما لا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ وأنه أفقه منه، إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة وإن كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم أن يرجع على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل والغالب بخلاف ذلك فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم .

وإنما كان هذان الكتابان كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك ولا ريب أن ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصح الكتب؛ لأنه أصح منقولاً عن المعصوم من الكتب المصنفة .

وأما الموطأ ونحوه فإنه صنف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن وقال : ( من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه ) . ثم نسخ ذلك عند جمهور العلماء، حيث ( أذن في الكتابة لعبد الله بن عمرو وقال : اكتبوا لأبي شاه ) .

وكتب لعمرو بن حزم كتابًا قالوا : وكان النهي أولًا خوفًا من اشتباه القرآن بغيره ثم أذن لما أمن ذلك فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون وكتبوا أيضًا غيره .

ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابع التابعين فصنف العلم فأول من صنف ابن جريج شيئًا في التفسير وشيئًا في الأموات .

وصنف سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة ومعمر وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين .

وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم والأصول والفروع بعد القرآن فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة . وصنف بعد عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير هؤلاء فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي - رحمه الله - فقال : ليس بعد القرآن كتاب أكثر صوابًا من موطأ مالك فإن حديثه أصح من حديث نظرائه وكذلك الإمام أحمد لما سئل عن حديث مالك ورأيه وحديث غيره ورأيهم ؟ رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم .

وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة ) .

فقد روي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا : هو مالك . والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان : أحدهما : الطعن في الحديث فزعم بعضهم أن فيه انقطاعًا .

والثاني : أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه . فيقال : ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر متقرر لمن كان موجودا وبالتواتر لمن كان غائبا، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك .

وهذا يقرر بوجهين : أحدهما : بطلب تقديمه على مثل الثوري والأوزاعي والليث وأبي حنيفة وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام . والثاني : أن يقال : أن مالكا تأخر موته عن هؤلاء كلهم فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك . فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده رحل إليه من المشرق والمغرب ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد والملوك والعامة . وانتشر موطؤه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشارًا من الموطأ وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما وكان محمد بن الحسن إذا حدث بالعراق عن مالك والحجازيين تمتلئ داره وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت . وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وابن عيينة .

ومعلوم عند كل أحد أن مالكًا أجل من ابن عيينة حتى إنه كان يقول : إني ومالك كما قال القائل :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس

ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلًا صالحًا زاهدًا آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من علمه، ولا رحلوا إليه فيه . وكان إذا أراد أمرًا يستشير مالكًا ويستفتيه كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق أن يتولى الخلافة فقال : حتى أشاور مالكًا فلما استشاره أشار عليه أن لا يدخل في ذلك وأخبره أن هذا لا يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة وذكر له ما ذكره عمر بن عبد العزيز - لما قيل له : ولِ القاسم بن محمد - أن بني أمية لا يدعون هذا الأمر حتى تراق فيه دماء كثيرة . وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم، لم يعلم أن الناس أخذوا عن العمري الزاهد منها ما يذكر فكيف يقرن هذا بمالك في العلم ورحلة الناس إليه ؟ .

ثم هذه كتب الصحيح التي أجل ما فيها كتاب البخاري أول ما يستفتح الباب بحديث مالك وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالمًا أعلم من مالك في وقته .

والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة : إما موافق، وإما منازع فالموافق لهم عضد ونصير والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم .

وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدودًا من أئمة العلم وذلك لعلمهم أن مالكًا هو القائم بمذهب أهل المدينة .

وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، فإن موطأه مشحون : إما بحديث أهل المدينة، وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة : إما قديمًا، وإما حديثًا، وإما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولا ويقول : هذا أحسن ما سمعت .

فأما بآثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر أنه كان في الأزمان المتقدمة من هو أتبع لمذهب أهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك .

ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على مالك مخالفته أولا لأحاديثهم في بعض المسائل كما يذكر عن عبد العزيز الدراوردي أنه قال له في مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة : تعرقت يا أبا عبد الله أي : صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السرقة لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم .

وأما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم، أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحاح . فيقال : أولا : أن مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة، وإنهم كانوا يكرهون للرجل أن يوافقهم وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك كما قال ابن عمر لما استفتاه عن دم البعوض وكما قال ابن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة .

وأما ثانيًا : فمثل هذا في قول مالك قليل جدا وما من عالم إلا وله ما يرد عليه وما أحسن ما قال ابن خويز منداد في مسألة بيع كتب الرأي والإجارة عليها : لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم، لكنه أقل خطأ من غيره .

وأما الحديث فأكثره نجد مالكا قد قال به في إحدى الروايتين وإنما تركه طائفة من أصحابه كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه .

وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقًا للحديث الصحيح الذي رواه، لكن ابن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الأولى ومعلوم أن مدونة ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرعها أهل العراق ثم سأل عنها أسد ابن القاسم . فأجابه بالنقل عن مالك وتارة بالقياس على قوله ثم أصلها في رواية سحنون فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة .

ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك ثم رواية غيره فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها وقد تكون مرجوحة في المذهب وعمل أهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك وما زال يحدث به إلى أن مات لرواية ابن القاسم وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك فمثل هذا أن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة إلا وله قول يوافقها بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة، فإنهم كثيرا ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك .

ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما حتى أن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجح محمد لصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي : بالإنصاف أو بالمكابرة ؟ قال له : بالإنصاف فقال : ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم ؟ فقال : بل صاحبكم فقال صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم صاحبكم ؟ فقال : بل صاحبكم فقال : صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم صاحبكم ؟ فقال : بل صاحبكم فقال : ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس، ونحن نقول بالقياس ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح . وقالوا للإمام أحمد : من أعلم بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : مالك أم سفيان ؟ فقال : بل مالك . فقيل له : أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان ؟ فقال : بل مالك . فقيل له : أيما أزهد مالك أم سفيان ؟ فقال : هذه لكم .

ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي : كانوا متقاربين في العصر وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر وكان أبو يوسف يتفقه أولا على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه وصنف كتاب [ اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ] .

وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره وهو المسمى بكتاب [ اختلاف العراقيين ] .

ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري بل سفيان عندهم أمام العراق فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق .

وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها وهو يعظم سفيان غاية التعظيم ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها .

وأحمد كان معتدلاً عالمًا بالأمور يعطي كل ذي حق حقه، ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه، ويدعو له، ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره .

وكان الشافعي يقول : سموني ببغداد ناصر الحديث . ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة، واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جدا وهو كان على مذهب أهل الحجاز وكان قد تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج كمسلم بن خالد الزنجي، وسعيد بن سالم القداح ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ وكمل أصول أهل المدينة وهم أجل علما وفقها وقدرا من أهل مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق ثم ذهب إلى الحجاز . ثم قدم إلى العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف بـ [ الحجة ] .

واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق واجتمع به بمكة وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه وتناظرا بحضور أحمد رضي الله عنهم أجمعين .

ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم وهي من جنس كذب القصاص ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيًا في أذى الشافعي قط ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة .

ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز فيقول : قال : بعض أصحابنا وهو يعني : أهل المدينة، أو بعض علماء أهل المدينة كمالك ويقول في أثناء كلامه : وخالفنا بعض المشرقيين وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحدًا منهم ينسب إلى أصحابهم واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب لكن أهل المدينة أجل عند الجميع .

ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - لما كان مجتهدًا في العلم ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه وإن خالف قول أصحاب المدنيين، قام بما رآه واجبًا عليه وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه وقد أحسن الشافعي فيما فعل وقام بما يجب عليه وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه وجرت محنة مصرية معروفة والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .

وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك وكل ذلك اتباعا للدليل وقياما بالواجب .

 

 

 

مجموع فتاوى ابن تيمية
المجلد العشـــرون
( 393 من 645 )

السابق الآيات القرآنية الفهرس التالي

 

 

والشافعي - رضي الله عنه - قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه محمد : يا بني الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج فما بينك وبين أن تقول : قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر .

قال محمد : فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي داودفقلت : قال ابن القاسم فقال : ومن ابن القاسم ؟ فقلت : رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى الغرب وأظنه قال : قلت : رحم الله أبي .

وكان مقصود أبيه : اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة فإنها تقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يخص به هذا وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم أو باب منه أو مسألة وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر .

لكن جملة مذاهب أهل المدينة النبوية راجحة في الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق، وذلك يظهر بقواعد جامعة :

منها : قاعدة الحلال والحرام المتعلقة بالنجاسات في المياه، فإنه من المعلوم أن الله قال في كتابه : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف 156، 157 ] . فالله تعالى أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان : ما خبثه لعينه لمعنى قام به، كالدم والميتة ولحم الخنزير . وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما؛ أو بعقد محرم كالربا والميسر . فأما الأول : فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله، وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته، كالسموم والله قد حرم علينا أشياء من المطاعم والمشارب، وحرم أشياء من الملابس .

ومعلوم أن مذهب أهل المدينة في الأشربة أشد من مذهب الكوفيين؛ فإن أهل المدينة وسائر الأمصار وفقهاء الحديث؛ يحرمون كل مسكر، وأن كل مسكر خمر وحرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولم يتنازع في ذلك أهل المدينة لا أولهم ولا آخرهم، سواء كان من الثمار أو الحبوب؛ أو العسل أو لبن الخيل أو غير ذلك .

والكوفيون لا خمر عندهم إلا ما اشتد من عصير العنب، فإن طبخ قبل الاشتداد حتى ذهب ثلثاه حل، ونبيذ التمر والزبيب محرم؛ إذا كان مسكرًا نيئًا فإن طبخ أدنى طبخ حل، وإن أسكر .

وسائر الأنبذة تحل، وإن أسكرت، لكن يحرمون المسكر منها .

وأما الأطعمة : فأهل الكوفة أشد فيها من أهل المدينة؛ فإنهم مع تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ وتحريم اللحم حتى يحرمون الضب والضبع والخيل، تحرم عندهم في أحد القولين، ومالك يحرم تحريمًا جازمًا ما جاء في القرآن فذوات الأنياب إما أن يحرمها تحريمًا دون ذلك، وإما أن يكرهها في المشهور، وروي عنه كراهة ذوات المخالب، والطير لا يحرم منها شيئًا، ولا يكرهه، وإن كان التحريم على مراتب، والخيل يكرهها، ورويت الإباحة والتحريم أيضًا .

ومن تدبر الأحاديث الصحيحة في هذا الباب علم أن أهل المدينة أتبع للسنة، فإن باب الأشربة قد ثبت فيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأحاديث ما يعلم من علمها أنها من أبلغ المتواترات، بل قد صح عنه في النهي عن الخليطين والأوعية ما لا يخفى على عالم بالسنة، وأما الأطعمة، فإنه وإن قيل : إن مالكا خالف أحاديث صحيحة في التحريم ففي ذلك خلاف .

والأحاديث الصحيحة التي خالفها؛ من حرم الضب وغيره تقاوم ذلك أو تربو عليه ثم إن هذه الأحاديث قليلة جدًا بالنسبة إلى أحاديث الأشربة . وأيضًا فمالك معه في ذلك آثار عن السلف كابن عباس؛ وعائشة؛ وعبد الله بن عمر وغيرهم، مع ما تأوله من ظاهر القرآن . ومبيح الأشربة ليس معه، لا نص، ولا قياس، بل قوله مخالف للنص والقياس .

وأيضًا فتحريم جنس الخمر، أشد من تحريم اللحوم الخبيثة، فإنها يجب اجتنابها مطلقا، ويجب على من شربها الحد، ولا يجوز اقتناؤها .

وأيضًا فمالك جوز إتلاف عينها، اتباعًا لما جاء من السنة في ذلك، ومنع من تخليلها وهذا كله فيه من اتباع السنة ما ليس في قول من خالفه من أهل الكوفة، فلما كان تحريم الشارع للأشربة المسكرة أشد من تحريمه للأطعمة؛ كان القول الذي يتضمن موافقة الشارع أصح .

ومما يوضح هذا؛ أن طائفة من أهل المدينة استحلت الغناء، حتى صار يحكى ذلك عن أهل المدينة، وقد قال عيسى بن إسحاق الطباع : سئل مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء ؟ فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . ومعلوم أن هذا أخف مما استحله من استحل الأشربة، فإنه ليس في تحريم الغناء من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما في تحريم الأشربة المسكرة، فعلم أن أهل المدينة أتبع للسنة .

ثم إن من أعظم المسائل مسألة اختلاط الحلال بالحرام لعينه، كاختلاط النجاسات بالماء وسائر المائعات، فأهل الكوفة يحرمون كل ماء أو مائع وقعت فيه نجاسة، قليلًا كان أو كثيرًا ثم يقدرون مالا تصل إليه النجاسة بما لا تصل إليه الحركة، ويقدرونه بعشرة أذرع في عشرة أذرع، ثم منهم من يقول : أن البئر إذا وقعت فيها النجاسة لم تطهر بل تطم . والفقهاء منهم من يقول : تنزح إما دلاء مقدرة منها، وإما جميعها على ما قد عرف لأجل قولهم : ينجس الماء والمائع بوقوع النجاسة فيه، وأهل المدينة بعكس ذلك فلا ينجس الماء عندهم إلا إذا تغير . لكن لهم في قليل الماء، هل يتنجس بقليل النجاسة ؟ قولان : ومذهب أحمد قريب من ذلك، وكذلك الشافعي، لكن هذان يقدران القليل بما دون القلتين، دون مالك، وعن مالك في الأطعمة خلاف .

وكذلك في مذهب أحمد نزاع في سائر المائعات، ومعلوم أن هذا أشبه بالكتاب والسنة فإن اسم الماء باق، والاسم الذي به أبيح قبل الوقوع باق، وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر بضاعة وغيره على أنه لا يتنجس، ولم يعارض ذلك إلا حديث ليس بصريح في محل النزاع فيه، وهو حديث النهي عن البول في الماء الدائم، فإنه قد يخص

البول، وخص بعضهم أن يبال فيه دون أن يجري إليه البول، وقد يخص ذلك بالماء

القليل، وقد يقال النهي عن البول لا مستلزم التنجيس، بل قد ينهى عنه لأن ذلك يفضي الى التنجيس، إذا كثر يقرر ذلك أنه لاتنازع بين المسلمين إن النهي عن البول في الماء الدائم، لا يعم جميع المياه، بل ماء البحر مستثنى بالنص والاجماع، وكذلك المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها، ولا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لا ينجسه البول بالاتفاق، والحديث الصحيح لا يعارضه حديث في هذا الإجمال والاحتمال، وكذلك تنجس الماء المستعمل، ونحوه مذهب أهل المدينة ومن وافقهم في طهارته ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم، كحديث صب وضوئه على جابر، وقوله المؤمن لا ينجس، وأمثال ذلك، وكذلك بول الصبي الذي لم يطعم مذهب بعض أهل المدينة، ومن وافقهم لهم فيه أحاديث صحيحة، عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعارضها شيء، وكذلك مذهب مالك، وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة، في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث، مما يؤكل لحمه وعلى ذلك بضع عشرة حجة من النص والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك، ولما كانت النجاسات من الخبائث المحرمة لأعيانها، ومذهبهم في ذلك أخذ من مذهب الكوفيين، كما في الأطعمة، كان ما ينجسونه أولئك أعظم، وإذا قيل له خالف حديث الولوغ ونحوه، في النجاسات فهو كما يقال أنه خالف حديث سباع الطير ونحوه ولا ريب أن هذا أقل مخالفة للنصوص ممن ينجس روث ما يؤكل لحمه وبوله، أو بعض ذلك، أو يكره سؤر الهرة، وقد ذهب بعض الناس إلى أن جميع

الأرواث والأبوال طاهرة، إلا بول الإنسي وعذرته، وليس هذا القول بأبعد في الحجة من قول من ينجس الذي يذهب إليه أهل المدينة، من أهل الكوفة، ومن وافقهم، ومن تدبر مذهب أهل المدينة وكان عالمًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين له قطعًا أن مذهب أهل المدينة المنتضم للتيسير في هذا الباب أشبه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المذهب المنتظم للتعسير، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما بال الأعرابي في المسجد وأمرهم بالصب على بوله قال : إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومن خالفهم يقول أنه يغسل ولا يجزى الصب وروي في ذلك حديثًا مرسلًا لا يصح .

فصل

وأما النوع الثاني من المحرمات وهو المحرم لكسبه؛ كالمأخوذ ظلمًا بأنواع الغصب من السرقة والخيانة والقهر؛ وكالمأخوذ بالربا والميسر؛ وكالمأخوذ عوضًا عن عين أو نفع محرم؛ كثمن الخمر والدم ; والخنزير والأصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن؛ وأمثال ذلك : فمذهب أهل المدينة في ذلك من أعدل المذاهب فإن تحريم الظلم، وما يستلزم الظلم أشد من تحريم النوع الأول؛ فإن الله حرم الخبائث من المطاعم إذ هي تغذى تغذية خبيثة، توجب للإنسان الظلم، كما إذا اغتذى من الخنزير والدم والسباع؛ فإن المغذى شبيه بالمغتذى به فيصير في نفسه من البغي والعدوان بحسب ما اغتذى منه . وإباحتها للمضطر لأن مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع هذه المفسدة، مع أن ذلك عارض لا يؤثر فيه مع الحاجة الشديدة أثرًا يضر . وأما الظلم فمحرم قليله وكثيره وحرمه تعالى على نفسه، وجعله محرمًا على عباده . وحرم الربا لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له، وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج وأما المقامر فقد يحصل له فضل، وقد لا يحصل له، وقد يقمر هذا هذا، وقد يكون بالعكس .

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ وعن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع حبل الحبلة . ونحو ذلك مما فيه نوع مقامرة، وأرخص في ذلك فيما تدعو الحاجة إليه، ويدخل تبعًا لغيره كما أرخص في ابتياعها بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح، وإن كان بعض أجزائها لم يخلق، وكما أرخص في ابتياع النخل المؤبّر مع جديده إذا اشترطه المبتاع وهو لم يبد صلاحه، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وكذلك سائر الشجر الذي فيه ثمر ظاهر، وجعل للبائع ثمرة النخل المؤبّر، إذا لم يشترطها المشتري فتكون الشجرة للمشتري، والبائع ينتفع بها، بإبقاء ثمره عليها إلى حين الجذاذ . وقد ثبت في الصحيح أنه أمر بوضع الجوائح وقال : ( إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ ) . ومذهب مالك وأهل المدينة في هذا الباب أشبه بالسنة، والعدل من مذهب من خالفهم من أهل الكوفة وغيرهم، وذلك أن مخالفهم جعل البيع إذا وقع على موجود جاز، سواء كان قد بدا صلاحه أو لم يكن قد بدا صلاحه، وجعل موجب كل عقد قبض المبيع عقبه، ولم يجز تأخير القبض فقال : أنه إذا اشترى الثمر باديًا صلاحه أو غير باد صلاحه جاز وموجب العقد القطع في الحال لا يسوغ له تأخير الثمر إلى تكمل صلاحه ولا يجوز له أن يشترطه . وجعلوا ذلك القبض قبضًا ناقلًا للضمان إلى المشتري دون البائع وطردوا ذلك فقالوا : إذا باع عينًا مؤجرة لم يصح لتأخير التسليم وقالوا : إذا استثنى منفعة المبيع : كظهر البعير وسكنى الدار لم يجز وذلك كله فرع على ذلك القياس . وأهل المدينة وأهل الحديث خالفوهم في ذلك كله، واتبعوا النصوص الصحيحة، وهو موافقة القياس الصحيح العادل، فإن قول القائل : العقد موجب القبض عقبه؛ يقال له : موجب العقد إما أن يتلقى من الشارع؛ أو من قصد العاقد، والشارع ليس في كلامه ما يقتضي أن هذا يوجب موجب العقد مطلقًا، وأما المتعاقدان فهما تحت ما تراضيا به ويعقدان العقد عليه، فتارة يعقدان على أن يتقابضا عقبه، وتارة على أن يتأخر القبض كما في الثمر؛ فإن العقد المطلق يقتضي الحلول؛ ولهما تأجيله إذا كان لهما في التأجيل مصلحة فكذلك الأعيان؛ فإذا كانت العين المبيعة فيها منفعة للبائع أو غيره كالشجر الذي ثمره ظاهر، وكالعين المؤجرة وكالعين التي استثنى البائع نفعها مدة، لم يكن موجب هذا العقد أن يقتضي المشتري ما ليس له؛ وما لم يملكه إذا كان له أن يبيع بعض العين دون بعض، كان له أن يبيعها دون منفعتها . ثم سواء قيل : إن المشتري يقبض العين أو قيل : لا يقبضها بحال : لا يضر ذلك؛ فإن القبض في البيع ليس هو من تمام العقد، كما هو في الرهن بل الملك يحصل قبل القبض للمشتري تابعًا، ويكون نماء المبيع له بلا نزاع، وإن كان في يد البائع، ولكن أثر القبض، إما في الضمان، وإما في جواز التصرف . وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري .

ولهذا ذهب إلى ذلك أهل المدينة وأهل الحديث؛ فإن تعليق الضمان بالتمكين من القبض، أحسن من تعليقه بنفس القبض، وبهذا جاءت السنة ففي الثمار التي أصابتها جائحة لم يتمكن المشتري من الجذاذ، وكان معذورًا، فإذا تلفت كانت من ضمان البائع؛ ولهذا التي تلفت بعد تفريطه في القبض كانت من ضمانه، والعبد والدابة التي تمكن من قبضها تكون من ضمانه على حديث علي وابن عمر . ومن جعل التصرف تابعًا للضمان فقد غلط؛ فإنهم متفقون على أن منافع الإجارة إذا تلفت قبل تمكن المستأجر من استيفائها كانت من ضمان المؤجر، ومع هذا للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة لئلا يكون ذلك ربحًا فيما لا يضمن، والصحيح جواز ذلك؛ لأنها مضمونة على المستأجر، فإنها إذا تلفت مع تمكنه من الاستيفاء كانت من ضمانه، ولكن إذا تلفت قبل تمكنه من الاستيفاء لم يكن من ضمانه . وهذا هو الأصل أيضًا؛ فقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال كنا نبتاع الطعام جزافًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا .

وابن عمر هو القائل : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من ضمان المشتري .

فتبين أن مثل هذا الطعام مضمون على المشتري، ولا يبيعه حتى ينقله، وغلة الثمار والمنافع له أن يتصرف فيها، ولو تلفت قبل التمكن من قبضها، كانت من ضمان المؤجر، والبائع والمنافع لا يمكن التصرف فيها إلا بعد استيفائها، وكذلك الثمار لا تباع على الأشجار بعد الجذاذ، بخلاف الطعام المنقول . والسنة في هذا الباب فرقت بين القادر على القبض، وغير القادر في الضمان والتصرف، فأهل المدينة أتبع للسنة في هذا الحكم كله، وقولهم أعدل من قول من يخالف السنة . ونظائر هذا كثير مثل بيع الأعيان الغائبة : من الفقهاء من جوز بيعها مطلقًا، وإن لم توصف، ومنهم من منع بيعها مع الوصف؛ ومالك جوز بيعها مع الصفة دون غيرها وهذا أعدل . والعقود من الناس من أوجب فيها الألفاظ وتعاقب الإيجاب والقبول ونحو ذلك، وأهل المدينة جعلوا المرجع في العقود إلى عرف الناس وعادتهم، فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه إجارة فهو إجارة، وما عدوه هبة فهو هبة، وهذا أشبه بالكتاب والسنة وأعدل فإن الأسماء منها ما له حد في اللغة، كالشمس والقمر، ومنها ما له حد في الشرع كالصلاة والحج، ومنها ما ليس له حد لا في اللغة ولا في الشرع بل يرجع إلى العرف كالقبض . ومعلوم أن اسم البيع والإجارة والهبة، في هذا الباب لم يحدها الشارع، ولا لها حد في اللغة؛ بل يتنوع ذلك بحسب عادات الناس وعرفهم، فما عدوه بيعًا فهو بيع، وما عدوه هبة فهو هبة، وما عدوه إجارة فهو إجارة . ومن هذا الباب أن مالكاَ يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت وبيع المقاثي جملة، كما يُجَوز هو والجمهور بيع الباقلاء ونحوه في قشره . ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم وإلى هذا التاريخ، ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا، وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه، وكل واحد من هذين يبيح ذلك، فكيف إذا اجتمعا ؟ وكذلك ما يجوز مالك من منفعة الشجر تبعًا للأرض مثل أن يكري أرضًا أو دارًا فيها شجرة أو شجرتان هو أشبه بالأصول من قول من منع ذلك . وقد يجوز ذلك طائفة من أصحاب أحمد بن حنبل مطلقًا، وجوزوا ضمان الحديقة التي فيها أرض وشجر، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل الحديقة من أسيد بن الحضير ثلثًا، وقضى بما تسلفه دينًا، كان عليه وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع . وهذا يتبين بذكر الربا؛ فإن تحريم الربا أشد من تحريم القمار , لأنه ظلم محقق , والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين : غنيًا وفقيرًا أوجب على الأغنياء الزكاة، حقًا للفقراء، ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء، وقال تعالى : { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة 276 ] . وقال تعالى : { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [ الروم 39 ] . فالظالمون يمنعون الزكاة، ويأكلون الربا، وأما القمار فكل من المتقامرين قد يقمر الآخر، وقد يكون المقمور هو الغني أو يكونان متساويين في الغنى والفقر، فهو أكل مال بالباطل، فحرمه الله، لكن ليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج . ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحيل على استحلاله، وسدوا الذريعة المفضية إليه، فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه ؟ بل يدل الناس على ذلك . وهذا يظهر بذكر مثلًا ربا الفضل وربا النسأ . أما ربا الفضل فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، واتفق جمهور الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب بجنسه إلا مثلًا بمثل؛ إذ الزيادة على المثل أكل مال بالباطل وظلم، فإذا أراد المدين أن يبيع مائة دينار مكسور، وزنه مائة وعشرون دينارًا؛ يسوغ له مبيح الحيل أن يضيف إلى ذلك رغيف خبز أو منديل يوضع فيه مائة دينار؛ ونحو ذلك مما يسهل على كل مرب فعله : لم يكن لتحريم الربا فائدة ولا فيه حكمة ولا يشاء مرب أن يبيع نوعًا من هذا بأكثر منه من جنسه إلا أمكنه أن يضم إلى القليل ما لا قدر له من هذه الأمور . وكذلك إذا سوغ لهما أن يتواطآ على أن يبيعه إياه بعرض لا قصد للمشتري فيه , ثم يبتاعه منه بالثمن الكثير أمكن طالب الربا أن يفعل ذلك .

ومعلوم أن من هو دون الرسول، إذا حرم شيئًا لما فيه من الفساد، وأذن أن يفعل بطريق لا فائدة فيه، لكان هذا عيبًا وسفهًا؛ فإن الفساد باق، ولكن زادهم غشًا، وإن كان فيه كلفة فقد كلفهم ما لا فائدة فيه، فكيف يظن هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ بل معلوم أن الملوك لو نهوا عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، واحتال المنهي على ما نهي عنه بمثل هذه الطريق، لعدوه لاعبًا مستهزئًا بأوامرهم وقد عذب الله أهل الجنة الذين احتالوا على ألا يتصدقوا، وعذب الله القرية التي كانت حاضرة البحر لما استحلوا المحرم بالحيلة، بأن مسخهم قردة وخنازير، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل ) . وقد بسطنا الكلام على [ قاعدة إبطال الحيل وسد الذرائع ] في كتاب كبير مفرد، وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .

وكذلك ربا النسأ فإن أهل ثقيف الذين نزل فيهم القرآن، أن الرجل كان يأتي إلى الغريم عند حلول الأجل فيقول : أتقضي أم تربي ؟ فإن لم يقضه وإلا زاده المدين في المال، وزاده الطالب في الأجل، فيضاعف المال في المدة لأجل التأخير . وهذا هو الربا الذي لا يشك فيه باتفاق سلف الأمة، وفيه نزل القرآن، والظلم والضرر فيه ظاهر . والله سبحانه وتعالى أحل البيع، وأحل التجارة، وحرم الربا، فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك، والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه، وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له، لم يبع ولم يتجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها؛ بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له، ولا للناس .

فإذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم، مثل أن تواطآ على أن يبيعه ثم يبتاعه، فهذه بيعتان في بيعة، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ) مثل أن يدخل بينهما محللًا يبتاع منه أحدهما ما لا غرض له فيه ليبيعه آكل الربا لموكله في الربا ثم الموكل يرده إلى المحلل بما نقص من الثمن .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ) ( ولعن المحلل والمحلل له ) . ومثل أن يضما إلى الربا نوع قرض، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ) ، خطأ ثم ( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة ) . وهو اشتراء الثمر والحب بخرص، وكما نهى عن بيع الصبرة من الطعام لا يعلم كيلها بالطعام المسمى؛ لأن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي كالعلم بالتفاضل، والخرص لا يعرف مقدار المكال، إنما هو حزر وحدس، وهذا متفق عليه بين الأئمة . ثم إنه قد ثبت عنه أنه أرخص في العرايا يبتاعها أهلها بخرصها تمرًا، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة، كما أنه في العلم بالزكاة وفي المقاسمة أقام الخرص مقام الكيل، فكان يخرص الثمار على أهلها يحصي الزكاة، وكان عبد الله بن رواحة يقاسم أهل خيبر خرصًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا أمكن التقدير بالكيل فعل، فإذا لم يمكن كان الخرص قائمًا مقامه للحاجة كسائر الأبدال في المعلوم والعلامة؛ فإن القياس يقوم مقام النص عند عدمه والتقويم يقوم مقام المثل، وعدم الثمن المسمى عند تعذر المثل والثمن المسمى .

ومن هذا الباب القافة التي هي استدلال بالشبه على النسب، إذا تعذر الاستدلال بالقرائن؛ إذ الولد يشبه والده في الخرص والقافة والتقويم أبدال في العلم كالقياس مع النص، وكذلك العدل في العمل؛ فإن الشريعة مبناها على العدل، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد 25 ] . { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة 286 ] .

والله قد شرع القصاص في النفوس والأموال والأعراض بحسب الإمكان فقال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [ البقرة 178 ] . الآية وقال تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة 45 ] . الآية وقال تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى 40 ] الآية وقال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة 194 ] الآية وقال تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } [ النحل 126 ] . الآية فإذا قتل الرجل من يكافئه عمدًا عدوانًا، كان عليه القود، ثم يجوز أن يفعل به مثل ما فعل؛ كما يقوله أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد في إحدى الروايتين بحسب الإمكان؛ إذا لم يكن تحريمه بحق الله كما إذا رضخ رأسه كما ( رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية ) كان ذلك أتم في العدل بمن قتله بالسيف في عنقه، وإذا تعذر القصاص عدل إلى الدية، وكانت الدية بدلًا لتعذر المثل . وإذا أتلف له مالًا؛ كما لو تلفت تحت يده العارية : فعليه مثله، إن كان له مثل، وإن تعذر المثل كانت القيمة، وهي الدراهم والدنانير، بدلًا عند تعذر المثل، ولهذا كان من أوجب المثل في كل شيء، بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة أقرب إلى العدل ممن أوجب القيمة من غير المثل، وفي هذا كانت قصة داود وسليمان . وقد بسطنا الكلام على هذه الأبواب كلها في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا : التنبيه .

وحينئذ فتجويز العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة عند تعذر بيعها بالكيل، موافق لأصول الشريعة مع ثبوت السنة الصحيحة فيه، وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، ومالك جوز الخرص في نظير ذلك للحاجة، وهذا عين الفقه الصحيح . ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي، وأحمد في جزاء الصيد : أنه يضمن بالمثل في الصورة، كما مضت بذلك السنة وأقضية الصحابة، فإن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش، وقضت الصحابة في النعامة ببدنة، وفي الظبي بشاة، وأمثال ذلك . ومن خالفهم من أهل الكوفة، إنما يوجب القيمة في جزاء الصيد، وأنه يشتري بالقيمة الأنعام والقيمة مختلفة باختلاف الأوقات .

 

فصل

ولما كان المحرم نوعين : نوع لعينه، ونوع لكسبه؛ فالكسب الذي هو معاملة الناس نوعان : معاوضة؛ ومشاركة . فالمبايعة والمؤاجرة، ونحو ذلك هي المعاوضة . وأما المشاركة، فمثل مشاركة العنان وغيرها من المشاركات . ومذهب مالك في المشاركات من أصح المذاهب وأعدلها؛ فإنه يجوز شركة العنان والأبدان وغيرهما، ويجوز المضاربة والمزارعة والمساقاة، والشافعي لا يجوز من الشركة إلا ما كان تبعًا لشركة الملك؛ فإن الشركة نوعان : شركة في الأملاك؛ وشركة في العقود . فأما شركة الأملاك، كاشتراك الورثة في الميراث، فهذا لا يحتاج إلى عقد، ولكن إذا اشترك اثنان في عقد، فمذهب الشافعي أن الشركة لا تحصل بعقد ولا تحصل القسمة بعقد . وأحمد تحصل الشركة عنده بالعقد والقسمة بالعقد، فيجوز شركة العنان مع اختلاف المالين وعدم الاختلاط، وإذا تحاسب الشريكان عنده من غير إفراز كان ذلك قسمة حتى لو خسر المال بعد ذلك لم تجبر الوضيعة بالربح . والشافعي لا يجوز شركة الأبدان ولا الوجوه ولا الشركة بدون خلط المالين، ولا أن يشترط لأحدهما ربحًا زائدًا على نصيب الآخر من ماله إذ لا تأثير عنده للعقد، وجوز المضاربة وبعض المساقاة والمزارعة تبعًا لأجل الحاجة لا لوفق القياس . وأما أبو حنيفة نفسه فلا يجوز مساقاة ولا مزارعة؛ لأنه رأى ذلك من باب المؤاجرة، والمؤاجرة لا بد فيها من العلم بالأجرة . ومالك في هذا الباب أوسع منهما، حيث جوز المساقاة على جميع الثمار، مع تجويز الأنواع من المشاركات التي هي شركة العنان والأبدان، لكنه لم يجوز المزارعة على الأرض البيضاء موافقة للكوفيين . وأما قدماء أهل المدينة هم وغيرهم من الصحابة والتابعين، فكانوا يجوزون هذا كله، وهو قول الليث؛ و ابن أبي ليلى وأبي يوسف؛ ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره .

والشبهة التي منعت أولئك المعاملة : أنهم ظنوا أن هذه المعاملة إجارة، والإجارة لا بد فيها من العلم بقدر الأجرة، ثم استثنوا من ذلك المضاربة لأجل الحاجة؛ إذ الدراهم لا تؤجر . والصواب أن هذه المعاملات من نفس المشاركات، لا من جنس المعاوضات؛ فإن المستأجر يقصد استيفاء العمل، كما يقصد استيفاء عمل الخياط والخباز والطباخ ونحوهم، وأما في هذا الباب فليس العمل هو المقصود، بل هذا يبذل نفع بدنه، وهذا يبذل نفع ماله ليشتركا فيما رزق الله من ربح، فإما يغنمان جميعًا أو يغرمان جميعًا وعلى هذاعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع .

والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من كراء المزارعة، في حديث رافع بن خديج وغيره، متفق عليه كما ذكره الليث وغيره؛ فإنه ( نهى أن يكرى بما تنبت الماذيانات والجداول وشيء من التبن ) فربما غل هذا، ولم يغل هذا، فنهى أن يعين المالك زرع بقعة بعينها، كما نهى في المضاربة أن يعين العامل مقدارًا من الربح وربح ثوب بعينه، لأن ذلك يبطل العدل في المشاركة . وأصل أهل المدينة في هذا الباب أصح من أصل غيرهم، الذي يوجب أجرة المثل، والأول هو الصواب؛ فإن العقد لم يكن على عمل، ولهذا لم يشترط العلم بالعمل، وقد تكون أجرة المثل أكثر من المال وربحه , فإنما يستحق في الفاسد نظير ما يستحق من الصحيح، فإذا كان الواجب في البيع والإجارة الصحيحة ثمنا وأجرة، وجب في الفاسد قسط من الربح كان الواجب في الفاسد قسطًا من الربح، وكذلك في المساقاة والمزارعة وغيرهما . وما يضعف في هذا الباب من قول متأخري أهل المدينة، فقول الكوفيين فيه أضعف، ويشبه أن يكون هذا كله من الرأي المحدث الذي علم به من عابه من السلف، وأما ما مضت به السنة والعمل فهو العدل .

ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة مخاطرة، والمستأجر قد ينتفع وقد لا ينتفع، بخلاف المساقاة والمزارعة، فإنهما يشتركان في الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما في المؤاجرة .

فصل

وأما العبادات فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كما قال ابن عباس : إذا أردت أن تعرف جهل العرب فاقرأ من قوله : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ } [ الأنعام 136 ] . الآية ; وذلك أن الله ذم المشركين على ما ابتدعوه من تحريم الحرث والأنعام، وما ابتدعوه من الشرك، وذمهم على احتجاجهم على بدعهم بالقدر، قال تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام 148 ] . الآية . وفي الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) وذكر في سورة الأعراف ما حرموه وما شرعوه، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } [ الأعراف 33 ] . الآية وقال : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [ الأعراف 29 ] . الآية فبين لهم ما أمرهم به، وما حرمه هو، وقال ذمًا لهم : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى 21 ] . الآية . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .

والمقصود أنه ليس لأحد أن يحرم إلا ما جاءت الشريعة بتحريمه، وإلا فالأصل عدم التحريم . سواء في ذلك الأعيان والأفعال، وليس له أن يشرع دينًا واجبًا أو مستحبًا ما لم يقم دليل شرعي على وجوبه واستحبابه .

إذا عرف هذا فأهل المدينة أعظم الناس اعتصامًا بهذا الأصل ; فإنهم أشد أهل المدائن الإسلامية كراهية للبدع، وقد نبهنا على ما حرمه غيرهم من الأعيان والمعاملات، وهم لا يحرمونه .

وأما الدين فهم أشد أهل المدائن اتباعًا للعبادات الشرعية، وأبعدهم عن العبادات البدعية . ونظائر هذا كثيرة .

منها أن طائفة من الكوفيين وغيرهم استحبوا للمتوضئ والمغتسل والمصلي ونحوهم أن يتلفظوا بالنية في هذه العبادات، وقالوا : إن التلفظ بها أقوى من مجرد قصدها بالقصد، وإن كان التلفظ بها لم يوجبه أحد من الأئمة . وأهل المدينة لم يستحبوا شيئًا من ذلك وهذا هو الصواب . ولأصحاب أحمد وجهان ; وذلك أن هذه بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، بل كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ولا يقول قبل التكبير شيئًا من هذه الألفاظ، كذلك في تعليمه للصحابة إنما علمهم الافتتاح بالتكبير، فهذه بدعة في الشرع، وهي أيضًا غلط في القصد، فإن القصد إلى الفعل أمر ضروري في النفس، فالتلفظ به من باب العبث، كتلفظ الآكل بنية الأكل ; والشارب بنية الشرب ; والناكح بنية النكاح؛ والمسافر بنية السفر ; وأمثال ذلك .

ومن ذلك صفات العبادات فإن مالكًا وأهل المدينة لا يجوزون تغيير صفة العبادة المشروعة فلا يفتتح الصلاة بغير التكبير المشروع، وهو قول الله أكبر كما أن هذا التكبير هو المشروع في الأذان والأعياد، ولا يجوزون أن يقرأ القرآن بغير العربية، ولا يجوزون أن يعدل عن المقصود المنصوص في الزكاة إلى ما يختار المالك من الأموال بالقيمة، وهم في مواقيت الصلاة أتبع للسنة من أهل الكوفة، حيث يستحبون تقديم الفجر والعصر، ويجعلون وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهو آخر وقت الظهر، ويجعلون وقت صلاة العشاء وصلاة المغرب مشتركًا للمعذور، كالحائض إذا طهرت، والمجنون، إذًا ويجوزون الجمع للمسافر الذي جد به السير، والمريض وفى المطر، وهم في

صلاة السفر معتدلون، فإن من الفقهاء من يجعل الاتمام أفضل من القصر، أو يجعل القصر، أفضل لكن لايكره الاتمام، بل يرى أنه الأظهر، وأنه لايقصر إلا أن ينوي القصر، ومنهم من يجعل الاتمام غير جائز، وهم يرون أن السنة هي القصر وإذا ربع كره له ذلك، ويجعلون القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة، ولا ريب أن هذا القول أشبه الأقوال بالسنة .

وكذلك في السنن الراتبة، يجعلون الوتر ركعة واحدة، وإن كان قبلها شفع، وهذا أصح من قول الكوفيين الذين يقولون لاوتر إلا كالمغرب، مع أن تجويز كليهما أصح لكن الفصل أفضل من الوصل .

فقولهم أرجح من قول الكوفيين مطلقًا، ولا يرون للجمعة قبلها سنة راتبة خلافًا لمن خالفهم من الكوفيين ومالك لا يوقت مع الفرائض شيئًا وبعض العراقيين وقت أشياء بأحاديث ضعيفة، فقول مالك أقرب إلى السنة، وأهل المدينة يرون الجمع والقصر للحاج بعرفة ومزدلفة، والقصر بمنى، سواء كان من أهل مكة، أو غيرهم ولا ريب أن هذا هو الذى مضت به سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وهذا القول أحد الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، ومن قال أنه : لايجوز القصر إلا لمن كان منهم على

مسافة القصر، فقوله مخالف للسنة، وأضعف منه قول من يقول لا يجوز الجمع إلا لمن كان على مسافه القصر، وقد علم أن للجمع أسبابًا غير السفر الطويل، ولهذا كان قول من يقول أنه يجوز الجمع في السفرالقصير , كما يجوز في الطويل أقوى من قول من لايجوزه إلا في الطويل لا في القصير، وظن من قال : هذه الأقوال من أهل العراق، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمنى ثم قال : ( يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) وهذا باطل عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل الحديث وانما الذى في السنن أنه قال : ذلك لما صلى في مكة في غزوة الفتح، وكذلك قد نقلوا هذا عن عمر .

ويروى أن الرشيد لما حج أمر أبايوسف أن يصلى بالناس فلما سلم قال : يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، فقال له بعض المكيين، أتقول لنا هذا ومن عندنا خرجت السنة وقال هذا من فقهك تكلم، وأنت في الصلاة .

وهذا المكي وافق أبايوسف على ظنه أنهم لايقصرون لكن من قلة فقهه تكلم وتكلم الناسي والجاهل بتحريم الكلام لايبطل صلاته عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى الرواتين ويبطلها، عند أبي حنيفة ولو كان المكي عالمًا بالسنة لقال : ليست هذه السنة، بل قد صلى صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر وعمر، وكذلك صلوا بعرفة ومزدلفة ركعتين، ولم يأمروا من خلفهم من المكيين بإتمام الصلاة فيها، كما هو مذهب أهل المدينة .

ومن ذلك صلاة الكسوف، فإنه قد تواترت السنن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صلاها بركوعين في كل ركعة، واتبع أهل المدينة هذه السنة وخفيت على اهل الكوفة حيث منعوا ذلك وكذلك صلاة الاستسقاء فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الأستسقاء، وأهل المدينة يرون أن يصلى للأستسقاء وخفيت هذه السنة على من أنكر صلاة الأستسقاء من أهل العراق، ومن ذلك تكبيرات العيد الزوائد، فإن غالب السنن والآثار توافق مذهب أهل المدينة سبع بتكبيرات الافتتاح والاحرام، وفى الثانية خمس .

ومن ذلك أن الصلاة هل تدرك بركعة، أو بأقل من ركعة، فمذهب مالك أنها إنما تدرك بركعة، وهذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال ( من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة ) وقال ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ) فمالك يقول في الجمعة والجماعة إنما تدرك بركعة، وكذلك أدراك الصلاة في اخر الوقت وكذلك إدراك الوقت كالحائض إذا طهرت، والمجنون إذا أفاق قبل خروج الوقت، وأبو حنيفة يعلق

الإدراك في الجميع بمقدار التكبيرة حتى في الجمعة، يقول إذا أدرك منها مقدار تكبيرة فقد أدركها، والشافعي وأحمد يوافقان مالكًا في الجمعة، ويختلف قولهما في غيرها، الأكثرون من أصحابهما يوافقون أبا حنيفة في الباقي، ومعلوم أن قول من وافق مالكًا في الجميع أصح نصًا وقياسًا، وقد احتج بعضهم على مالك بقوله في الحديث الصحيح من أدرك سجدة من الصلاة، وليس في هذا حجة لأن المراد بالسجدة الركعة، كما قال ابن عمر حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، و سجدتين بعدهما، ونظائرها متعددة .

ومن ذلك أن مذهب أهل المدينة أن الإمام إذا صلى ناسيًا لجنابته وحدثه، ثم علم أعاد هو ولم يعد المأموم، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، كعمر وعثمان، وعند أبي حنيفة يعيد الجميع، وقد ذكر ذلك رواية عن أحمد والمنصوص المشهور عنه، كقول مالك وهو مذهب الشافعي وغيره ومما يؤيد ذلك أن هذه القصة، جرت لأبي يوسف فإن الخليفة استخلفه في صلاة الجمعة، فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثًا فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة ، فقيل له في ذلك فقال : ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين مع أن صلاة الجمعة فيها خلاف كثير، لكون الإمامة شرطًا فيها، وطرد مالك هذا الأصل أيضًا في سائر خطأ الإمام صلى الإمام باجتهاده فترك ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل أن يكون الإمام لا يرى وجوب قراءة البسملة، أو لا يرى الوضوء من الدم، أو من القهقهة، أو من مس النساء، والمأموم يرى وجوب ذلك، فمذهب مالك صحة صلاة المأموم، وهذا

أحد القولين عن أحمد والشافعي، والقول الآخر لا يصح . كقول أبي حنيفة مذهب أهل المدينة هو الذي لا ريب في صحته، فقد ثبت في صحيح البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم ) وهذا صريح في المسألة، ولأن الإمام صلى باجتهاده، فلا يحكم ببطلان صلاته، ألا ترى أنه ينفذ حكمه إذا حكم باجتهاده، فالائتمام به أولى والمنازع بنى ذلك على أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وهذا غلط فإن الإمام صلى باجتهاده أو تقليده وأنه إن كان مصيبًا فله أجران وإن كان مخطئًا فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له، فكيف يقال : أنه يعتقد بطلان صلاته ثم من المعلوم بالتواتر عن سلف الأمة أن بعضهم ما زال يصلى خلف بعض مع وجود مثل ذلك، فما زال الشافعي وأمثاله يصلون خلف أهل المدينة، وهم لا يقرأون

البسملة سرًا ولا جهرًا ومن المأثور أن الرشيد، احتجم فاستفتى مالكًا فأفتاه بأنه لا وضوء عليه فصلى خلفه أبو يوسف ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء، ومذهب مالك والشافعي أنه لاينقض الوضوء، فقيل لأبي يوسف أتصلي خلفه فقال : سبحان الله أمير المؤمنين، فإن ترك الصلاة خلف الأئمة، لمثل ذلك من شعائر أهل البدع، كالرافضة والمعتزلة، ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا، فأفتى بوجوب الوضوء، فقال له السائل : فإن كان الإمام لايتوضأ أصلي خلفه فقال سبحان الله : ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك بن أنس .

ومالك يرى أن كلام الناسي والجاهل في الصلاة لا يبطلها، على حديث ذي اليدين وحديث معاوية بن الحكم لما شمت العاطس، وحديث الأعرابي الذي قال : في الصلاة اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا احدًا، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الرواتين، والراوية الأخرى كقول أبي حنيفة قالوا حديث ذي اليدين، كان قبل تحريم الكلام، وليس كذلك بالحديث ذي اليدين كان بعد خيبر إذ قد شهده أبو هريرة وإنما أسلم أبوهريرة عام خيبر، وتحريم الكلام كان قبل رجوع ابن مسعود من الحبشة، وابن مسعود شهد بدرًا ومذهب أهل المدينة في الدعاء في الصلاة والتنبيه بالقرآن والتسبيح وغير ذلك فيه من التوسع ما يوافق السنة، بخلاف الكوفيين، فإنهم ضيقوا في هذا الباب تضيقًا كثيرًا وجعلوا ذلك كله من الكلام المنهي عنه .

ومن ذلك في الطهارة أن مالكًا رأى الوضوء من مس الذكر، ولمس النساء لشهوة، دون القهقهة في الصلاة، ولمس النساء لغير شهوة، ودون الخارج النادر من السبيلين، والخارج النجس من غيرهما، وأبو حنيفة رآها من القهقهة، والخارج النجس من السبيلين مطلقًا، ولا يراها من مس الذكر، ومعلوم أن أحاديث نقض الوضوء من مس الذكر أثبت وأعرف من أحاديث القهقهة، فإنه لم يرو أحد منها في السنن شيئًا، وهى مراسيل ضعيفة عند أهل الحديث، ولهذا لم يذهب إلى وجوب الوضوء من القهقهة أحد من علماء الحديث، لعلمهم بأنه لم يثبت فيها شيء، والوضوء من مس الذكر فيه طريقان منهم، من يجعله تعبدًا لا يعقل معناه فلا يكون بعيدًا عن الأصول، كالوضوء من القهقهة في الصلاة ومنهم من لا يجعله تعبدًا فهو حينئذ أظهر وأقوى، وأما لمس النساء ففيه ثلاثة أقوال مشهورة قول أبي حنيفة لا وضوء منه بحال، وقول مالك وأهل المدينة وهو المشهور عن أحمد أنه إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإلا فلا وقول الشافعي يتوضأ منه بكل حال، ولا ريب أن قول أبي حنيفة، وقول مالك هما القولان المشهوران في السلف، وأما إيجاب الوضوء من لمس النساء بغير شهوة، فقول شاذ ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولا في أثر عن أحد من سلف الأمة، ولا هو موافق لأصل الشريعة، فإن اللمس العاري عن شهوة لا يؤثر لا في الإحرام، ولا في الإعتكاف، كما يؤثر فيهما اللمس مع الشهوة ولا يكره لصائم، ولا يوجب مصاهرة، ولا يؤثر في شيء من العبادات وغيرها من الأحكام فمن جعله مفسدًا للطهارة فقد خالف الأصول، وقوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } [ المائدة 6 ] . إن أريد به الجماع فقط، كما قاله عمر وغيره فمعلوم أن قوله أو لامستم في الوضوء، كقوله في الإعتكاف { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [ البقرة 187 ] . والمباشرة بغير شهوة لا تؤثر هناك فكذلك هنا، وكذلك قوله { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } هذا مع نعلم أنه مازال

الرجال يمسون النساء بغير شهوة، فلو كان الوضوء من ذلك واجبًا لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، ولكان ذلك مما ينقل ويؤثر .

وهذا كما أنه احتج من احتج على مالك في مسألة المني، أن الناس لا يزالون يحتلمون في المنام، فتصيب الجنابة أبدانهم وثيابهم، فلو كان الغسل واجبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم، يأمر به مع أنه لم يأمر أحدًا من المسلمين بغسل ما أصابه من مني لا في بدنه ولا في ثيابه، وقد أمر الحائض أن تغسل دم الحيض، من ثوبها ومعلوم أن إصابة الجنابة ثياب الناس، أكثر من إصابة دم الحيض ثياب النساء، فكيف يبين هذا للحائض ويترك بيان ذلك الحكم العام، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وما ثبت عنه في الصحيح من أن عائشة، كانت تغسل المني من ثوبه لا يدل على الوجوب، وثبت عنها أيضًا في الصحيح أنها كانت تفركه، فكيف وقد ثبت هذا أيضًا أن الغسل يكون لقذارته، كما قال سعد بن أبي وقاص وابن عباس أمطه عنك، ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، فإن كانت هذه الحجة مستقيمة فمثلها يقال في الوضوء من لمس النساء لغير شهوة، ولمسهن لشهوة في التوضي منه اجتهاد وتنازع قديم، وأما لمسهن بغير شهوة فكما ترى، وكذلك الاغتسال من الجنابة فمذهب مالك وأحد القولين من مذهب أحمد، بل هو المأثور عنه أتباع السنة فيه، فإن من نقل غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كعائشة وميمونة لم ينقل أنه غسل بدنه كله ثلاثًا، بل ذكر أنه بعد الوضوء وتخليل أصول الشعر حثاثية على شق رأسه وأنه أفاض الماء، بعد ذلك على سائر بدنه، والذين استحبوا الثلاث إنما ذكروه قياسًا على الوضوء والسنة، قد فرقت بينهما، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وهو أربعة أمداد ومعلوم أنه لو كان السنة في الغسل التثليث، لم يكفه ذلك، فإن سائر الأعضاء فوق أعضاء الوضوء أكثر من أربع مرات .

ومن ذلك التيمم منهم من يقول لا يجب أن يتيمم لكل صلاة، كقول أبي حنيفه ومنهم من يقول بل يتيمم لكل صلاة كقول الشافعي ومذهب مالك يتيمم لوقت كل صلاة وهذا أعدل الأقوال، وهو يشبه الآثار المأثورة عن الصحابة والمأثورة في المستحاضة، ولهذا كان ذلك هو المشهور فيهما عند فقهاء الحديث .

ومن ذلك أهل المدينة يوجبون الزكاة في مال الخليطين، كمال المالك الواحد ويجعلون في الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وهذا موافق لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة الذي أخرجه البخاري من حديث أبي بكر الصديق، وعامة كتب النبي صلى الله عليه وسلم كالتي كانت عند آل عمر ابن الخطاب وآل علي بن أبي طالب وغيرهما، توافق هذا ومن خالفهم من الكوفيين يستأنف الفريضة بعد ذلك، ولا يحصل للخلطة تأثير، ومعهم آثار الاستئناف، لكن لا تقاوم هذا، وإن كان ثابتًا فهو منسوخ كما نسخ ما روي في البقر أنها تزكى بالغنم، ومذهب أهل المدينة، أن لا وقص إلا في الماشية ففي النقدين ما زاد فبحسبه، كما روي ذلك في الآثار وأبو حنيفة يجعل الوقص تابعًا للنصاب ففي النقدين عنده لا زكاة في الوقص كما في الماشية، وأما المعشرات فعنده لا وقص فيها ولا نصاب، بل يجب العشر في كل قليل وكثير في الخضراوات، لكن صاحباه وافقا أهل المدينة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ليس فيما دون خمس أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة ) وبما ثبت عنه من ترك أخذ الصدقة من الخضراوات مع ما روي عنه ليس في الخضراوات صدقة، ومذهب أهل المدينة أن الركاز الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم، ( وفى الركاز الخمس ) لا يدخل المعدن، بل المعدن تجب فيه الزكاة، كما أخذت من معادن بلال بن الحارث، كما ذكر ذلك مالك في موطأه، فإن الموطأ لمن تدبره وتدبر تراجمه وما فيه من الاثار وترتيبه، علم قول من خالفها من أهل العراق، فقصد بذلك الترتيب والآثار بيان السنة، والرد على من خالفها، ومن كان بمذهب أهل المدينة والعراق أعلم كان أعلم بمقدار الموطأ، ولهذا كان يقول [ كتاب جمعته في كذا وكذا سنة تأخذونه في كذا وكذا يومًا كيف تفقهون ما فيه ] . أو كلامًا يشبه هذا .

ومن خالف ذلك من أهل العراق يجعلون الركاز إسمًا يتناول المعادن، ودفن الجاهلية، وكذلك أمور المناسك، فإن أهل المدينة لا يرون للقارن أن يطوف إلا طوافًا واحدًا ولا يسعى إلا سعيًا واحدًا، ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها توافق هذا القول، ومن صار من الكوفيين إلى أن يطوف أولًا ثم يسعى للعمرة، ثم يطوف ثانيًا، ويسعى للحج فمتمسك بآثار منقولة عن علي وابن مسعود، وهذا إن صح لا يعارض السنة الصحيحة، فإن قيل فأبوحنيفة يرى القران، أفضل ومالك يرى الإفراد أفضل، وعلماء الحديث لا يرتابون أن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان قارنًا كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، قيل هذه المسائل كثر نزاع الناس فيها واضطرب عليهم ما نقل فيها وما من طائفة إلا وقد قالت فيها قولًا مرجوحًا والتحقيق الثابت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج بأصحابه، أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي فلما لم يحلل توقفوا فقال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين العمرة والحج، فالذي تدل عليه السنة، أن من لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، وأن من ساق الهدي فالقران أفضل له، هذا إذا جمع بينهما في سفرة واحدة، وأما إذا سافر للحج سفرة، وللعمرة سفرة، فالإفراد أفضل له، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة .

اتفقوا على أن الإفراد أفضل إذا سافر كل منهما سفرة، والقران الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بطواف واحد وبسعي واحد، لم يقرن بطوافين وسعيين، كما يظنه من يظنه من أصحاب أبي حنيفة كما أنه لم يفرد الحج كما يظنه من ظنه من أصحاب الشافعي ومالك ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد من أصحابة إلاعائشة لأجل عمرتها التي حاضت فيها، مع أنه قد صح أنه اعتمر أربع عمر إحداهن في حجة الوداع ولم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه كما ظنه بعض أصحاب أحمد ومذهبهم أن المحصر لاقضاء عليه، وهذا أصح من قول الكوفيين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صدوا عن العمرة الحديبية، ثم من العام القابل، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، وطائفة ممن معه لم يعتمروا، وجميع أهل الحديبية، كانوا أكثر من ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، ومنهم من مات قبل عمرة القضية، ومذهبهم أنه لا يستحب لأحد بل يكره أن يحرم قبل الميقات المكاني، والكوفيون يستحبون الإحرام قبله وقول أهل المدينة الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر قبل حجة الوداع عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وكلاهما أحرم فيهما من ذي الحليفة واعتمر عام حنين من الجعرانة، ثم حجة الوداع وأحرم فيها من ذي الحليفة، ولم يحرم من المدينة قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليداوم على ترك الأفضل وخلفاؤه كعمر وعثمان، نهوا عن الإحرام قبل الميقات، وقد سئل مالك عن رجل أحرم قبل الميقات، فقال : [ أخاف عليه من الفتنة فقال : قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [ النور 63 ] .

فقال السائل : وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة امتثال في طاعة الله تعالى قال وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بفعل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ] . أو كما قال، وكان يقول [ لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد بجدل هذا ] .

ومذهب أهل المدينة أن وطىء بعد التعريف قبل التحلل فسد حجه، ومن وطىء بعد التحلل الأول فعليه عمرة، وهذا هو المأثور عن الصحابة، دون قول من قال أن الوطء بعد التعريف لا يفسد، وقول من قال أن الوطء بعد التحلل الأول لا يوجب إحرامًا ثانيًا، واتبع مالك في ذلك قول ابن عباس، وذكره في موطأه، لكن لم يسم من نقله فيه عن ابن عباس إذ الراوي له عكرمة لما بلغه

فيه عن ابن عمر، وسعد وإن كان الذي أتمه توثيق عكرمة ولهذا روى له البخاري، فإن قيل قد خالف حديث ضباعة بنت الزبير في اشتراطها التحلل، إذا حبسها حابس، وحديث عائشة في تطييب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه، وقبل طوافه بالبيت، وحديث ابن عباس في أنه مازال يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وغير ذلك قيل إذا قيس هذا بما خالفه غيره من الكوفيين ونحوه كان ذلك أكثر مع أنه في هذه المسائل اتبع فيها آثارًا عن عمر ابن الخطاب وابن عمر وغيرهما، وإن كان الصواب عند تنازع الصحابة، الرد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من لم تبلغه بعض السنة، فاتبع عمر وابن عمر، ونحوهما كان أرجح مما خفي عنه أكثر مما خفي عن أهل المدينة النبوية ولم يكن له سلف مثل سلف أهل المدينة .

ومن ذلك حرم المدينة النبوية، فإن الأحاديث قد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه باثبات حرمها، بل صح عنه أيضًا أنه جعل جزاء من عضد بها شجرًا، أن سلبه لواجده، ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد أنها حرام أيضًا وإن كان لهم في جزاء الصيد نزاع، ومن خالف في ذلك من الكوفيين لم تبلغه هذه السنن ولكن بعض اتباعهم أخذ يعارض، ذلك بمثل حديث أبي عمير وحديث الوحش وهذه لو كانت تقاوم ذلك في الصحة، لم يجز أن تعارض بها، لكن تلك متواترات، وحديث أبي عمير محمول على أن الصيد صيد خارج المدينة، ثم دخل إليها، وكذلك حديث الوحش، إن صح وإن قدر أنهما متعارضان، فكان مثل تحريم المدينة لأن أحاديث الحرم رواها أبو هريرة، ونحوه ممن صحبته متأخرة .

وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طلحة، فكان من أوائل الهجرة، أو أنه إذا تعارض نصان أحدهما ناقل عن الأصل، والآخر ناف مبق لحكم الأصل، كان الناقل أولى لأنه إذا قدم الناقل لم يلزم تعيين الحكم إلا مرة واحدة وإذا قدم المبقي تغير الحكم مرتين، فلو قيل أن حديث أبي عمير بعد أحاديث تحريم المدينة لكان قد حرمه ثم أحله وإذا قدر أنه كان قبل ذلك، لم يلزم إلا كونه قد حرمه بعد التحليل، وهذا لا ريب فيه .

والله أعلم .

فصل

وأما المناكح فلا ريب أن مذهب أهل المدينة ـ في بطلان نكاح المحلل ونكاح الشغار ـ أتبع للسنة ممن لم يبطل ذلك من أهل العراق، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( لعن المحلل والمحلل له ) ، وثبت عن أصحابه كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس : أنهم نهوا عن التحليل؛ لم يعرف عن أحد منهم الرخصة في ذلك وهذا موافق لأصول أهل المدينة . فإن من أصولهم أن القصود في العقود معتبرة، كما يجعلون الشرط المتقدم كالشرط المقارن، ويجعلون الشرط العرفي كالشرط اللفظي .

ولأجل هذه الأصول أبطلوا نكاح المحلل، وخلع اليمين الذي يفعل حيلة لفعل المحلوف عليه، وأبطلوا الحيل التي يستحل بها الربا وأمثال ذلك . ومن نازعهم في ذلك من الكوفيين؛ ومن وافقهم ألغى النيات في هذه الأعمال، وجعل القصد الحسن كالقصد السيئ، وسوغ إظهار أعمال لا حقيقة لها ولا قصد بل هي نوع من النفاق والمكر . كما قال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون عليهم .

والبخاري قد أورد في صحيحه كتابا في الرد على أهل الحيل، وما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون على من فعل ذلك كما بسطناه في الكتاب المفرد .

ونكاح الشغار قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه النهي عنه، ولكن من صححه من الكوفيين رأى أنه لا محذور فيه إلا عدم إعلام المهر ـ والنكاح يصح بدون تسمية المهر ـ ولهذا كان المبطلون له لهم مأخذان :

أحدهما : أن مأخذه جعل بضع كل واحدة مهر الأخرى فيلزم التشريك في البضع . كما يقول ذلك الشافعي وكثير من أصحاب أحمد . وهؤلاء منهم طائفة يبطلونه إلا أن يسمي مهرا ; لأنه مع تسميته انتفى التشريك في البضع . ومنهم من لا يبطله إلا بقول : وبضع كل واحدة مهر للأخرى ; لكونه إذا لم يقل ذلك لم يتعين جعل البضع مهرا . ومنهم من يبطله مطلقا كما جاء عنه بذلك حديث مصرح به في السنن وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره .

والمأخذ الثاني : أن بطلانه لاشتراط عدم المهر . وفرق بين السكوت عن تسمية المهر وبين اشتراط المهر ; فإن هذا النكاح من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا فلو سمى المهر بما يعلمان تحريمه كخمر وخنزير بطل النكاح؛ كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو أشبه بظاهر القرآن وأشبه بقياس الأصول .

وكذلك نكاح الحامل أو المعتدة من الزنا باطل في مذهب . وهو أشبه بالآثار والقياس لئلا يختلط الماء الحلال بالحرام، وقد خالفه أبو حنيفة

فجوز العقد دون الوطء، والشافعي جوزهما، وأحمد وافقه وزاد عليه فلم

يجوز نكاح الزانية حتى تتوب لدلالة القرآن والأحاديث على تحريم نكاح

الزانية . وأما من ادعى أن ذلك منسوخ وأن المراد به الوطء ففساد قوله

ظاهر من وجوه متعددة .

وكذلك مسألة تداخل العدتين من رجلين؛ كالتى تزوجت في عدتها؛ أوالتى وطئت بشبهة، فان مذهب مالك أن العدتين لا يتداخلان بل تعتد لكل واحد منهما، وهذا هو المأثور عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال بتداخلهما .

وكذلك مسألة إصابة الزوج الثاني؛ هل تهدم ما دون الثلاث ؟ وهو الذي يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ثم تتزوج من يصيبها ثم تعود إلى الأول، فإنها تعود على ما بقي عند مالك، وهو قول الأكابر من الصحابة كعمر بن الخطاب وأمثاله، وهو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإنما مالك قال : لا تعود على ما بقي من ابن عمر وابن عباس وهو قول أبي حنيفة .

وكذلك في الإيلاء مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وغيرهم أنه عند انقضاء أربعة أشهر يوقف إما أن يفي؛ وإما أن يطلق . وهذا هو المأثور عن بضعة عشر من الصحابة، وقد دل عليه القرآن والأصول من غير وجه، وقول الكوفيين أن عزم الطلاق انقضاء العدة فاذا انقضت ولم يف طلقت . وغاية ما يروى ذلك عن ابن مسعود إن صح عنه .

ومسألة الرجعة بالفعل كما إذا طلقها فهل يكون الوطء رجعة ؟ فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : يكون رجعة كقول أبي حنيفة .

والثاني : لا يكون كقول الشافعي .

والثالث : يكون رجعة مع النية وهو المشهور عند مالك وهو أعدل الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد .

فصل

وأما العقوبات والأحكام فمذهب أهل المدينة أرجح من مذهب أهل الكوفة من وجوه :

أحدها : أنهم يوجبون القود في القتل بالمثقل كما جاءت بذلك السنة وكما تدل عليه الأصول . بل بالغ مالك حتى أنكر الخطأ شبه العمد، وخالفه غيره في ذلك لهجر الشبه، لكنه في الحقيقة نوع من الخطأ امتاز بمزيد حكم فليس هو قسما من الخطأ المذكور في القرآن .

ومن ذلك مسألة قتل المسلم بالكافر والذمي والحر بالعبد للناس فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يقتل به بكل حال ; كقول أبي حنيفة وأصحابه . والثاني : لا يقتل به بحال كقول الشافعي وأحمد في أحد القولين . والثالث : لا يقتل به إلا في المحاربة؛ فإن القتل فيها حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة بل يقتل فيه الحر وإن كان المقتول عبدا؛ والمسلم وإن كان المقتول ذميا . وهذا قول أهل المدينة والقول الآخر لأحمد وهو أعدل الأقوال وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب أيضا . ومذهب مالك في المحاربين وغيرهم إجراء الحكم على الردء والمباشر كما اتفق الناس على مثل ذلك في الجهاد . ومن نازعه في هذا سلم أن المشتركين في القتل يجب عليهم القود فإنه متفق عليه من مذهب الأئمة . كما قال عمر : ( لو تمالأ أهل صنعاء لقتلتهم به ) فإن كانوا كلهم مباشرين فلا نزاع وإن كان بعضهم غير مباشر لكنه متسبب سببا يفضي إلى القتل غالبا ـ كالمكره وشاهد الزور إذا رجع والحاكم الجائر إذا رجع ـ فقد سلم له الجمهور على أن القود يجب على هؤلاء . كما قال علي رضي الله عنه في الرجلين اللذين شهدا على رجل أنه سرق فقطع يده ثم رجعا وقالا : أخطأنا قال : ( لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ) فدل على قطع الأيدي باليد وعلى وجوب القود على شاهد الزور . والكوفيون يخالفون في هذين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل رقبة المحاربين بينهم ومعلوم أن قول من جعل المتعاونين على الإثم والعدوان مشتركين في العقوبة أشبه بالكتاب والسنة لفظا ومعنى ممن لم يوجب العقوبة إلا على نفس المباشر . ومن ذلك أهل المدينة يتبعون ما خطب به عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( الرجم في كتاب الله حق على كل من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) . كذلك يحدون في الخمر بما إذا وجد سكرانا أو تقيأ؛ أو وجدت منه الرائحة ولم يكن هناك شبهة وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كعمر وعثمان وعلي . وأبو حنيفة والشافعي لا يرون الحد إلا بإقرار أو بينة على الفعل وزعموا أن ذلك شبهة وعن أحمد روايتان . ومعلوم أن الأول أشبه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وهو حفظ لحدود الله تعالى التي أمر الله بحفظها والشبهة في هذا كالشبهة في البينة والإقرار الذي يحتمل الكذب والخطأ .

ومن ذلك أن أهل المدينة يرون [ العقوبات المالية ] مشروعة حيث مضت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين كما أن العقوبات البدنية مشروعة حيث مضت بها السنة، وقد أنكر العقوبات المالية من أنكرها من أهل الكوفة ومن اتبعهم وادعوا أنها منسوخة، ومن أين يأتون على نسخها بحجة ؟ وهذا يفعلونه كثيرا إذا رأوا حديثا صحيحا يخالف قولهم . وأما علماء أهل المدينة وعلماء الحديث فرأوا السنن والآثار قد جاءت بالعقوبات المالية كما جاءت بالعقوبات البدنية : مثل كسر دنان الخمر؛ وشق ظروفها؛ وتحريق حانوت الخمار . كما صنع موسى بالعجل، وصنع النبي صلى الله عليه وسلم بالأصنام، وكما أمر عليه السلام عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين، وكما أمرهم عليه السلام بكسر القدور التي فيها لحم الحمر ثم أذن لهم في غسلها، وكما ضعف القود على من سرق من غير الحرز، وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب غرم الضالة المكتومة وضعف ثمن دية الذمي المقتول عمدا .

وكذلك مذهبهم في [ العقود والديات ] من أصح المذاهب فمن ذلك دية الذمي فمن الناس من قال : ديته كدية المسلم؛ كقول أبي حنيفة . ومنهم من قال : ديته ثلث دية المسلم؛ لأنه أقل ما قيل؛ كما قاله الشافعي . والقول الثالث : أن ديته نصف دية المسلم وهذا مذهب مالك وهو أصح الأقوال؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أهل السنن : أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن ذلك العاقلة تحمل جميع الدية كما يقول الشافعي؛ أو تحمل المقدرات كدية الموضحة والأصابع فما فوقها كما يقوله أبو حنيفة؛ أو تحمل ما زاد على الثلث وهو مذهب مالك وهذا الثالث هو المأثور وهو مذهب أحمد، وفي الثلث قولان في مذهب مالك وأحمد .

ويذكر أنه تناظر مدني وكوفي فقال المدني للكوفي : قد بورك لكم في الربع كما تقول : يمسح ربع الرأس، ويعفى عن النجاسة المخففة عن ربع المحل، وكما تقولونه في غير ذلك . فقال له الكوفي : وأنتم بورك لكم في الثلث كما تقولون : إذا نذر صدقة ماله أجزأه الثلث، وكما تقولون : العاقلة تحمل ما فوق الثلث، وعقل المرأة كعقل الرجل إلى الثلث فإذا زادت كانت على النصف وأمثال ذلك .

وهذا صحيح؛ ولكن يقال للكوفي : ليس في الربع أصل لا في كتاب الله ولا سنة رسوله . وإنما قالوا : الإنسان له أربع جوانب ويقال : رأيت الإنسان إذا رأيت أحد جوانبه وهي أربعة فيقام الربع مقام الجميع . وأما الثلث فله أصل في غير موضع من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق المسلمين أن المريض له أن يوصي بثلث ماله لا أكثر؛ كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لما عاده في حجة الوداع؛ وكما ثبت في الصحيح في الذي أعتق ستة مملوكين له عند موته فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة؛ وكما روي أنه قال لأبي لبابة : ( يجزيك الثلث ) وكما في غير ذلك فأين هذا من هذا ؟ وما في هذا الحديث يقول به أهل المدينة .

والقرعة فيها آية من كتاب الله وستة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها هذا الحديث . ومنها قوله : ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ولم يجدوا إلا أن يستهموا عليه ) ، ومنها : ( إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ) ، ومنها : أن الأنصار كانوا يستهمون على المهاجرين لما هاجروا إليهم، ومنها في المتداعيين اللذين أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين حبا أم كرها، ومنها : في اللذين اختصما في مواريث درست فقال لهما : ( توخيا الحق واستهما وليحلل كل منكما صاحبه ) . والقرعة يقول بها أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد وغيرهما، ومن خالفهم من الكوفيين لا يقول بها؛ بل نقل عن بعضهم أنه قال : القرعة قمار وجعلوها من الميسر .

والفرق بين القرعة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الميسر الذي حرمه ظاهر بين؛ فإن القرعة إنما تكون مع استواء الحقوق وعدم إمكان تعيين واحد وعلى نوعين : أحدهما : أن لا يكون المستحق معينا كالمشتركين إذا عدم المقسوم فيعين لكل واحد بالقرعة، وكالعبيد الذين جزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، وكالنساء اللاتي يريد السفر بواحدة منهن فهذا لا نزاع بين القائلين بالقرعة أنه يقرع فيه . والثاني : ما يكون المعين مستحقا في الباطن كقصة يونس، والمتداعيين، وكالقرعة فيما إذا أعتق واحدا بعينه ثم أنسيه، وفيما إذا طلق امرأة من نسائه ثم أنسيها أو مات : أو نحو ذلك . فهذه القرعة فيها نزاع وأحمد يجوز ذلك دون الشافعي .

فصل

ومذهبهم في الأحكام أنهم يرجحون جانب أقوى المتداعيين ويجعلون

اليمين في جانبه فيقضون بالشاهد ويمين الطالب في الحقوق وفي

القسامة يبدأون بتحليف المدعين فان حلفوا خمسين يمينا استحقوا الدم،

والكوفيون يرون أنه لا يحلف الا المدعى عليه فلا يحلفون المدعى لا في قسامة ولا في غيرها ولا يقضون بشاهد ويمين ولا يرون اليمين على المدعى .

ومعلوم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة توافق مذهب

المدنيين، فإن حديث القسامة صحيح ثابت فيه وقد قال النبي صلى الله

عليه وسلم للأنصار : ( تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ) . وكان الشافعي ونحوه من أهل العراق إذا ناظروا علماء أهل المدينة ـ كأبي الزناد وغيره ـ في القسامة واحتج عليهما أهل المدينة بالسنة التي لا مندوحة لأحد عن قبولها ويقولون لهم أن السنة ووجوه الحق لتأتى على خلاف الرأي، فلا يجد المسلمون بدا من قبولها في كلام طويل مروي بإسناد .

وكذلك مسألة الحكم بشاهد ويمين فيها أحاديث في الصحيح والسنن كحديث ابن عباس الذي رواه مسلم، وكحديث أبي هريرة وغيره مما رواه أبو داود لما قال بعض العلماء نرى أن من حكم بشاهد ويمين نقض حكمه . انتصر لهذه السنة العلماء كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم . فمالك بحث فيها في موطأه بحثا لا يعد له نظير في الموطأ، والشافعي في الأم بحث فيها نحو عشر أوراق، وكذلك أبو عبيد في كتاب القضاء .

وليس مع الكوفيين إلا ما يروونه من قوله : ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ) وهذا اللفظ ليس في السنن وإن كان قد رواه بعض المصنفين في الأحاديث، ولكن في الصحيح حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) .

وهذا اللفظ إما أن يقال لا عموم فيه؛ بل اللام لتعريف المعهود وهو المدعى عليه؛ اذ ليس مع المدعي إلا مجرد الدعوى كما قال ( لو يعطى الناس بدعواهم . . ) ومن يحلف المدعي لا يحلفه مع مجرد الدعوى بل إنما يحلفه اذا قامت حجة يرجح بها جانبه كالشاهد في الحقوق، والإرث في القسامة .

إن قيل هو عام فالخاص يقضى على العام، واحتجاجهم بما في القرآن من ذكر الشاهدين والرجل والمرأتين ضعيف جدا، فإن هذا إنما هو مذكور في تحمل الشهادة دون الحكم بها، ولو كان في الحكم فالحكم بالشهادة المجردة لم يفتقر إلى ذلك، ومن حلف مع الشاهد لم يحكم بشهادة غير الشهادة المذكورة في القرآن، ثم الائمة متفقون على أنه يحكم بلا شهادة أصلا بل بالنكول أو الرد وأنه يحكم بشهادة النساء منفردات في مواضع فكيف يحكم مع أن هذا ليس بمخالف للقرآن ؟ فكيف باليمين مع الشاهد ؟ ثم مالك يوجب القود في القسامة ويقيم الحد على المرأة اذا التعن الرجل ولم تلتعن المرأة، والشافعي يقيم الحد ولا يقتل من القسامة، وأبو حنيفة يخالف في المسألتين، وأحمد يوافق على القود بالقسامة دون حد المرأة بل يحسبها اذا لم تلتعن ويخليها . وظاهر الكتاب والسنة يوافق قول مالك، ومن ذلك أهل المدينة يرون قتل اللوطي الفاعل والمفعول به محصنين كانا أو غير محصنين، وهذا هو الذي دلت عليه السنة واتفاق الصحابة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، ومن قال لا قتل عليه من الكوفيين فلا سنة معه ولا أثر عن الصحابة .

وقد قال ربيعة للكوفي الذي ناظره : أيجعل مالا يحل بحال كما يباح بحال دون حال ؟ وذكر الزهري : أن السنة مضت بذلك . ومن ذلك أن الدعوى في التهم كالسرقة والقتل يراعون فيها حال المتهم هل هو من أهل التهم ام ليس من أهل ذلك، ويرون عقوبة من ظهرت التهمة في حقه . وقد ذكر ذلك من صنف في الأحكام السلطانية من أصحاب الشافعي وأحمد، ذكروا في عقوبة مثل هذا هل يعاقبه الوالي والقاضي ؟ أم يعاقبه الوالي ؟ قولان .

وكما يجب أن يعرف أن امر الله تعالى ورسوله متناول لكل من حكم بين الناس سواء كان واليا أو قاضيا أو غير ذلك فمن فرق بين هذا وهذا بما يتعلق بأمر الله ورسوله فقد غلط، وأما من فرق بينهما بما يتعلق بالولاية لكون هذا ولي على مثل ذلك دون هذا فهذا متوجه . وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفى تصانيفهم، اذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بقتله ـ كقتله اليهودى الذي رض رأس الجارية، وكإهداره لدم السابة التى سبته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي، ونحو ذلك ـ قالوا : هذا يعمله سياسة . فيقال لهم : هذه السياسة إن قتلهم هي مشروعة لنا، فهي حق، وهي سياسة شرعية . وإن قلتم : ليست مشروعة لنا، فهذه مخالفة للسنه .

ثم قول القائل بعد هذا سياسة إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الاسلام ؟ أم هذه السياسة من غير شريعة الاسلام ؟ فإن قيل بالأول فذلك من الدين، وإن قيل بالثاني فهو الخطأ . ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين . وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال : ( أن بني اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء يكثرون ) قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : ( أوفوا بيعة الأول

فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) .

فلما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال : الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة . فصارت أمور كثيرة اذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء؛ وتؤخذ الاموال؛ وتستباح المحرمات .

والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأى من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى؛ ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك .

وكذلك كانت الأمصار التى ظهر فيها مذهب أهل المدينة، يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها، من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب، مالا يكون في الأمصار التى ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم؛ حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم . وقد قال الله تعالى في كتابه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ . . . } الاية [ الحديد : 25 ] فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر، وكفى بربك هاديا ونصيرا .

ودين الاسلام أن يكون السيف تابعا للكتاب، فاذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الاسلام قائما، وأهل المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك . أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم .

وأما اذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك، وهذه الأمور من اهتدى إليها وإلى أمثالها تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق بما لا نسبة بينهما .

ومن ذلك أن القتال في الفتنة الكبرى كان الصحابة فيها ثلاث فرق فرقة قاتلت من هذه الناحية؛ وفرقة قاتلت من هذه الناحية؛ وفرقة قعدت . والفقهاء اليوم على قولين : منهم من يرى القتال من ناحية علي مثل أكثر المصنفين لقتال البغاة، ومنهم من يرى الإمساك وهو المشهور من قول أهل المدينة وأهل الحديث . والأحاديث الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هذه الفتنة توافق قول هؤلاء، ولهذا كان المصنفون

لعقائد أهل السنة والجماعة يذكرون فيه ترك القتال في الفتنة؛ والإمساك

عما شجر بين الصحابة .

ثم إن أهل المدينة يرون قتال من خرج عن الشريعة كالحرورية وغيرهم، ويفرقون بين هذا وبين القتال في الفتنة وهو مذهب فقهاء الحديث، وهذا هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإنه قد ثبت عنه الحديث في الخوارج من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه وخرج البخاري بعضها وقال فيه : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم؛ وصيامه مع صيامه؛ وقراءته مع قراءتهم،

يقرأون القران لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن

قتلهم يوم القيامة ) .

وقد ثبت اتفاق الصحابة على قتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر فيهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم وسجد له شكرا لما رأى أباهم مقتولا وهو ذو الثدية . بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين فإن عليا لم يفرح بذلك بل ظهر منه من التألم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ بل ذكر أنه قاتل باجتهاده .

فأهل المدينة اتبعوا في قتال المارقين من الشريعة وترك القتال في الفتنة، وعلى ذلك ائمة أهل الحديث، بخلاف من سوى بين قتال هؤلاء وهؤلاء؛ بل سوى بين قتال هؤلاء وقتال الصديق لمانعي الزكاة؛ فجعل جميع هؤلاء من باب البغاة، كما فعل ذلك من فعله من المصنفين في قتال

أهل البغي فإن هذا جمع بين ما فرق الله بينهما، وأهل المدينة والسنة

فرقوا بين ما فرق الله بينه واتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم

العادل . فإن القياس الصحيح من العدل وهو التسوية بين المتماثلين

والتفريق بين المتخالفين .

وأهل المدينة أحق الناس باتباع النص الصحيح والقياس العادل، وهذا باب يطول استقصاؤه وقد ذكرنا من ذلك ما شاء الله من القواعد الكبار في القواعد الفقهية وغير ذلك، وإنما هذا جواب فتيا نبهنا فيه تنبيها على جمل يعرف بها بعض فضائل أهل المدينة النبوية، فإن معرفة هذا من الدين لاسيما إذا جهل الناس مقدار علمهم ودينهم، فبيان هذا يشبه بيان علم الصحابة ودينهم إذا جهل ذلك من جهله . فكما أن بيان السنة وفضائل الصحابة وتقديمهم الصديق والفاروق من أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الرافضة ونحوهم، فكذلك بيان السنة ومذاهب أهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب أهل الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال المتعبين للظن وما تهوى الأنفس والله أعلم .

والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه، والحمد لله

رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم